قداس السنة للمثلث الرحمة المطران بولس آميل سعاده، كفرحي 4-11-2023

عظة المطران منير خيرالله

في قداس السنة للمطران بولس آميل سعاده

الكرسي الأسقفي- كفرحي، السبت 4/11/2023

 502

المطران بولس آميل سعاده:

قلب كبير في شخصية إهدنية مميزة

مرّت سنة كاملة على رحيل المطران بولس آميل سعاده وكأنها البارحة، وهو لا يزال حاضرًا في ذاكرة وقلب كل بترونيّ وكلّ إهدنّي. وكيف لي أن أنساه، أنا الذي رافقته ستًّا وثلاثين سنة كان لي فيها أبًا وأخًا ورفيقًا؟

وعرفته فيها قلبًا كبيرًا في شخصية إهدنية مميزة تحمل تراثًا إيمانيًا وكنسيًا ومارونيًا عريقًا.

بدأ مشواري معه سنة 1986، يوم تسلّم رعاية النيابة البطريركية في بلاد البترون التي كانت ممزّقة ومقسّمة، لا تواصل بين ساحلها وجردها، وأهلُها مهجّرون ومشتّتون.

صمّم على العمل جاهدًا في سبيل الإنماء الروحي والإنساني والثقافي والاجتماعي والعمراني. ووعد أبناء البترون بأنه سيحمل في قلبه قضية كل واحد منهم وسيدافع عن حقهم في حياة كريمة. وأنا شاهد على ذلك إذ كان يدعوني مرّات كثيرة، وأحيانًا في الليالي، إلى أن أرافقه إلى هذا أو ذاك من المسؤولين والمعنيين من أجل حلِّ مشكلة أمنية أو اجتماعية أو عائلية؛ وكم كان يستعمل هيبته الإهدنية لفرض الحلّ الذي يحفظ كرامة كل إنسان والخير العام للرعية وللمجتمع.

بدأ بالعناية بالكهنة، وهم معاونو الأسقف والرعاة الملتصقون بشعبهم ولهم الفضل الكبير في صموده. وأذكر أن أول مبادرة قام بها كانت أنه طلب مني دعوة كهنة الأبرشية الذين يخدمون خارجها، أو الذين تهجّروا مع أبناء رعاياهم ليبقوا في خدمتهم، إلى اجتماع عام ذكّرهم فيه أنهم يحملون تراث أبرشية القديسين وبلاد العلم والثقافة والريادة. واعتنى بالكهنة العاملين فيها ليؤمّن لهم حياة كريمة كي يتابعوا خدمتهم بالتضحية والعطاء.

وعمل على قيام نهضة روحية مع الكهنة والأخويات والجمعيات الكنسية والشبابية والاجتماعية لتكون في خدمة المحبة وخدمة الإنسان.

اهتّم أيضًا بالحياة المكرّسة والرهبانية واعتبر أديارها ومزاراتها مراكز أشعاع روحي وحمل قضية القديسين فيها. وأذكر كم كان قلبه يرتعش رهبةً وفرحًا كل مرة دُعي من قبل مجمع القديسين في روما أو من قبل غبطة البطريرك إلى الإشراف على دعاوى إعلان قداسة رفقا وتطويب وقداسة الحرديني وتطويب الأخ اسطفان نعمه والبطريرك اسطفان الدويهي. وكنت إلى جانبه أمين سرّ اللجان التي ترأسها أو عمل معها.

وعمل على نهضة ثقافية بتشجيع المبادرات المتعددة من ندوات ومحاضرات وإصدارات وتشجيع الكتّاب والشعراء والمؤلفين على حمل ريادة القلم والثقافة.

وأسس متحفًا أثريًا وأشرف على إصدار مجموعة تاريخ أبرشية البترون المارونية.

واهتمّ بنهضة عمرانية، مبتدئًا بترميم دير مار يوحنا مارون- المقرّ البطريركي الأول في كفرحي الذي اتخذ منه مقرًّا وبيتًا ومرجعًا ليسمع فيه على الدوام صدى أصوات بطاركة وأساقفة عظام كانوا شهودًا على صمود شعبهم في الإيمان والحرية والتضامن والمحبة. وأوصى أن يُدفن بقربهم ليكون في مصافهم في الملكوت السماوي: وأشهد كم كانت فرحته عارمة عندما نجح، في أولى أيام سنة 2000، في استعادة هامة مار مارون من فولينيو- إيطاليا بعد غياب دام 870 سنة.

ولا ننسى الحركة العمرانية التي انطلقت في كنائسنا ورعايانا في سبيل تأمين الأجواء لجمع الأهالي بروح الإلفة والأخوّة والتعاون.

واهتمّ أخيرًا بالأرض، التي هي عنصر من عناصر هويتنا المارونية، كما كان يردّد العلاّمتان الخوري يواكيم مبارك والخوري ميشال الحايك، وكما نقرأ في المجمع البطريركي الماروني. ففلح وزرع وسقى. ولا تزال حتى اليوم كل شجرة مثمرة تهتف بعرفان الجميل وتبارك من زرع وتشكر الله الذي يُنمي (1 قور 3/6).

وفي كل مواقفه، كان المطران بولس آميل سعاده صوتًا مارونيًا بنكهة إهدنية وعنفوان زغرتاوي ينادي بالعودة إلى الأصالة والتمسّك بتراث الآباء والأجداد وبالقيم والأخلاق المسيحية واللبنانية والإنسانية.

في خلال سنوات خدمته الطويلة زرع المطران سعاده في أرض طيّبة، أرض قداسة، وفي قلوب البترونيين الطيبين، كلمة الله التي أعلنها الابن يسوع المسيح على أرضنا وتمّم عمل الله الخلاصي بموته وقيامته. وها هو الزرع لا يزال يثمر، ثلاثين وستين ومئة، إيمانًا وقداسةً وحريةً شهادةً للحق. (راجع متى 13/3-9). وأفضل شهادة على ذلك هي في دعوى تطويب المكرّم البطريرك الياس الحويّك.

رجاؤنا كبير بأننا سنعتني بهذا الزرع الطيّب بفضل التزام كهنتنا ورهباننا وراهباتنا وكبارنا وشبابنا وأطفالنا وعائلاتنا، وبأننا سنلبّي معًا الدعوة إلى القداسة، بشفاعة العذراء مريم أمنا وسيدة لبنان وجميع قديسينا.

Photo gallery