عظة المطران منير خيرالله
في قداس زيارته الرعائية إلى رعية حلتا
الأحد 14/12/2014
« إخلع نعليك من رجليك لأنّ الأرض التي تطأها قدماك هي أرض مقدّسة»
أبونا زياد خادم هذه الرعية،
أحبّائي جميعاً أبناء وبنات رعية حلتا، رعية البطريرك العظيم الياس الحويّك
بتأثّر عميق وبقلب كبير أنا معكم اليوم؛ وأعرف أنه عليّ أولاً أن أقدّم لكم إعتذاري لأنّي تأخرت كثيراً لأقوم بهذه الزيارة الراعوية. ولكن القلب الكبير الذي كان للبطريرك الحويّك دعاني إلى أن أحاول أن أتشبّه به، ولو ببعض ملامح من حياته، لأقدر أن أحتفل معكم اليوم.
لاحظوا كيف أرادت العناية الإلهية أن نلتقي اليوم في 14 كانون الأول، أحد البيان ليوسف، عيد مار يوسف، شفيع هذه الكنيسة وهذه الرعية، وأن أكون معكم لكي نحتفل بسرّ الله الذي ينكشف لنا كما كُشِف لمار يوسف وللبطريرك الحويك الذي سمّته كنيستنا وتاريخنا « رجل العناية الإلهية»؛ لأن أوجه الشبه بين القديس يوسف والبطريرك الياس عديدة.
دعوني أتوقف أولاً حول معنى الإنجيل اليوم.
أرسل الله ملاكه إلى يوسف الصدّيق خطّيب مريم ليتراءى له في الحلم ويقول له: « لا تخف يا يوسف ابنَ داود من أن تأتي بمريم إمرأتك إلى بيتك؛ فهي حامل من الروح القدس، وستلد ابناً فسمِّه يسوع، لأنه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم» (متى 1/20).
هذا هو سرّ الله الذي سيصير إنساناً؛ وهو سرّ لا يحدّه عقل بشري ولا يفهمه. فقط المؤمن الذي يسلّم ذاته لله، كالقديس يوسف، يفهم هذا السرّ ويؤمن بأن المولود من مريم هو ابن الله وعمانوئيل أي الله معنا ومخلّص البشر.
يقول لنا متى في إنجيله: « ولما قام يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب وأتى بامرأته إلى بيته» (متى 1/24). أطاع الله، كما فعلت مريم، وراح يربّي يسوع ابن الله المتجسّد إنساناً مثلنا ومن أجلنا والحامل ضعفنا وخطايانا حتى الموت على الصليب.
هذا هو سرّ الله الذي كُشف لمريم وليوسف، ثم للرسل وللكنيسة التي لا تزال تتابع رسالة يسوع المسيح الخلاصية بين البشر. وهذا هو السرّ الذي كُشف لأبينا البطريرك الياس، إبن حلتا، إبن هذه الأرض البترونية المقدسة. وهو منذ صغره تربّى في عائلة كهنوتية، إذ إن والده كان كاهناً، على تسليم ذاته للعناية الإلهية. طبعاً لم يكن يعرف ماذا يخبّئ له الله ولا إلى أين سيدعوه ولا أي مسؤولية سيحمّله. تشبّه بمار يوسف وسلّم ذاته للعناية الإلهية. ومن يسلّم ذاته لله يعمل على تتميم مشيئته في حياته ولا يعود يبالي بما يدور حوله من أحداث ولا ما يعيق طريقه من صعوبات وحواجز. هذا ما سمح لمار يوسف بأن يكون ربّ العائلة المقدسة، وسمح للبطريرك الياس بأن يكون أباً وراعياً للكنيسة المارونية.
لن أتوقّف عند حياة البطريرك الياس التي تعرفونها. لكني أقول لكم يا أبناء وبنات حلتا، كما أقول لأبناء وبنات أبرشية البترون: إنكم مدعوون إلى دعوة خاصة ومميزة؛ مدعوون إلى التشبّه بالبطريرك الياس وبالكثيرين من قديسينا، من بطاركة ومطارنة ونساك ورهبان وراهبات؛ مدعوون إلى تسليم ذواتكم بثقة كاملة إلى الله وإلى أن تقولوا له مع مريم: « أنا أمه الرب فليكن لي بحسب قولك»، ومع يسوع: « لتكن مشيئتك»، ومثل مار يوسف أن تفعلوا ما يأمركم به. أنتم مدعوون إلى أن تواجهوا كل التحديات التي تعصف بنا، في لبنان وفي بلداننا في الشرق الوسط، بإيمان ثابت وبثقة كاملة.
مدعوون إلى أن تعوا أن الأرض التي تعيشون عليها هي أرض مقدسة، هي أرض وقفٌ لله، كما اعتبرها آباؤنا وأجدادنا. وإلى أن تعرفوا أن العائلات التي تربيّنا فيها والتي نربّي فيها أولادنا هي عائلات مقدسة لأنها أعطت قديسين، وأن كنيستنا هي كنيسة مقدسة لأنها كنيسة المسيح تحمل رسالته الخلاصية في المحبة.
ولا نستطيع أمام هذه الحقيقة إلا أن نلبّي دعوة الله لنا لكي نكون بدورنا قديسين. ونحن نستطيع ذلك.
أحبائي أبناء وبنات رعية حلتا، أنتم مدعوون إلى تحمّل مسؤولية جسيمة ولعب دور كبير، لأنكم ورثة البطريرك الحويك ولأن دعوى تطويبه أصبحت في روما وستأخذ مجراها القانوني.
ولكن عندما يأتي اليوم الذي يعلن فيه قداسة البابا البطريرك الياس مكرّماً ثم طوباوياً ثم قديساً، سيكون لكم دور مهم أكبر من بلدتكم المتواضعة. فالبطريرك الياس المتواضع، ابن عائلة متواضعة وبلدة متواضعة، دعاه الله إلى مسؤوليات جسام في الكنيسة وفي لبنان والعالم. وبإعلانه مكرّماً وطوباوياً وقديساً سيكون منارةً ومثالاً لإخوته أبناء لبنان الكبير في عيش الفضائل الإلهية والقيم الإنسانية والوطنية.
أما في أبرشيتنا البترونية فنحن في مسيرة مجمع أبرشي يهدف إلى التجدّد الروحي والشخصي والمؤسساتي. ونعرف أنه لا تجدّد إلاّ في العودة إلى شخص يسوع المسيح وإلى كلمة الله وإلى جذور روحانيتنا النسكية التي تتميز ببُعدها العمودي في العلاقة مع الله وفي العيش على قمم الجبال أو في قعر الوديان، وببُعدها الأفقي الرسولي في انفتاحنا على جميع الناس ومحبتهم وخدمتهم.
ولا يتحقق التجدّد إلاّ عندما يقوم كل واحد منا بفحص الضمير وفعل التوبة والسير على خطى الآباء القديسين لنكون نحن أيضاً قديسين.
وقد بدأنا مسيرة التجدّد في الأبرشية على مستوى الأشخاص، معي أنا مطران الأبرشية ومع إخوتي الكهنة، ثم مع الجمعيات والحركات الرسولية، ثم مع لجان الوقف. واليوم مع لجنة وقف جديدة في حلتا حيث قلت لأعضائها مع الخوري زياد خادم الرعية أن شعارنا هو الخدمة، وعلينا أن نخدم ونضحّي بدون حساب. ومعهم ستتجدّد الرعية في البشر والحجر ونكون معاً رعية واحدة تشهد للمسيح وتليق بالبطريرك الياس الحويك.
ليبارككم الله، ويبارك عائلاتكم، كباركم وصغاركم، الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم، وهم يصلّون معنا اليوم لنكون قلباً واحداً وقلباً كبيراً يحبّ ولا مكان فيه إلاّ للحبّ.
هذه هي صلاتي من أجلكم، وهذه هي وصيتي لكم: لا تتركوا في قلبكم مجالاً لغير الحبّ. ولا تتعاملوا مع بعضكم البعض إلا بالمحبة. فالمحبة هي وصية يسوع الوحيدة التي جعلته يموت من أجلنا، والتي تجعلنا نحبّ بعضنا بعضاً كما هو أحبّنا. آمين.