عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار يوحنا مارون، عيد الأبرشية،
الأحد 4/3/2018، في دير مار يوحنا مارون- كفرحي
« أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم» (متى 5/13-16)
صاحب المعالي النائب الشيخ بطرس حرب
سعادة النائب الأستاذ سامر سعاده
حضرة ممثل معالي وزير الخارجية والمغتربين الأستاذ جبران باسيل
سعادة العائمقام
حضرة المدراء العامون والقضاة والهيئات السياسية والبلدية والإجتماعية والثقافية،
أيها الأحباء.
يكتسب احتفالنا بعيد مار يوحنا مارون، البطريرك الأول وشفيع أبرشيتنا، معنًى مميّزًا هذه السنة إذ يندرج في ختام سنة الشهادة والشهداء الذي احتفلنا به البارحة في بكركي برئاسة صاحب الغبطة والنيافة البطريرك مار بشاره بطرس الراعي الكلّي الطوبى الذي أحييّه من المقرّ البطريركيّ الأول؛ كما أحيّي سَلَفي ومعلّمي سيادة المطران بولس آميل سعاده الذي عمل جاهدًا على ترميم هذا الدير وإعادته إلى رونقه الأول.
الكنيسة المارونية، التي أسسها مار يوحنا مارون في أواخر القرن السابع، والتي تابعت مسيرتها عبر الأجيال متبنيّةً الروحانية النسكية التي وضعها مار مارون، هي كنيسة الشهادة والشهداء. فقد شهدت لهذه الروحانية في حياة زهد ونسك وصلاة وتبشير، وتميّزت بحياة متكاملة جمعت في الشهادة للمسيح بين النسك والرسالة.
واتّبع الموارنة مع مار يوحنا مارون ومن بعده مقوّمات تلك الروحانية وارتضوا أن يخوضوا المغامرة مع الله حتى النهاية من دون خوف أو تراجع، وقَبِلوا التضحية بالذات لأن روحانيتهم النسكية هي روحانية الصليب. فَهِمُوا أن التضحية بالحياة ليست خسارةً لها بل هي على العكس ربح جديد لها بقدر التضحية بها.
فعاشوا في العراء على قمم جبال لبنان أو في قعر وديانه زاهدين في العالم وملذاته وإغراءاته ومتحمّلين، على مرّ الأجيال، أشق العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على ثوابتهم الأربعة، ألا وهي:
1- حريتهم في عيش إيمانهم بالله والتعبير عن آرائهم،
2- تعلُّقُهم بأرضهم المقدسة التي سقوها بعرق جبينهم،
3- ارتباطُهم بشخص البطريرك، رأسهم الواحد وأبيهم وراعيهم ومرجعهم ورمز وحدتهم وضامنها،
4- ثقافتُهم وانفتاحهم على الشرق والغرب.
أما لماذا اختار أبناء مارون المجيء إلى جبل لبنان ؟ فذلك لأنه « الجبل الذي يسكن فيه أولياءُ الله تلبيةً لدعوةٍ منه»، كما يقول البطريرك اسطفان الدويهي. فجاؤوا إليه وحوّلوه ديرًا للصلاة والابتهال إلى الله وأطلقوا على أعلى قمة فيه اسم « قَرنو دسُوهدي» أي قرن الشهود أو قمة الشهداء، مثالاً لكل قمة روحية؛ وأطلقوا على أكبر وادٍ فيه اسم وادي قاديشا أي وادي القديسين.
لم يطلبوا لأنفسهم من العالم سلطانًا، ولم تكن بيدهم سلطة؛ لأنهم « لم يأتوا إلى جبل لبنان لاجئين ولا فاتحين، بل أتوه نساكًا ومرسَلين، وجعلوا منه معقلاً للحريات يلجأ إليه كلُ مضطَهدٍ في الشرق»، كما يقول الأب يواكيم مبارك.
فنجحوا في جعل جبل لبنان معقلاً للحريّات واستقبلوا فيه كل الشعوب المضطهدة، من مسيحية وإسلامية، وعاشوا معًا في التفاهم والاحترام المتبادل، بالرغم من الأزمات والحروب المفتعلة من السلطنات المحتلّة.
ثم نجحوا في تأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر في عهد الإمارتين المعنية والشهابية. وكانوا رواد الاستشراق في الغرب والاستغراب في الشرق بفضل تلامذة المدرسة المارونية في روما، ورواد النهضة العربية بفضل تلامذة مدرسة عين ورقة. وتوصّلوا معًا إلى أن ينالوا، سنة 1920، إعلان دولة لبنان الكبير بقيادة البطريرك الياس الحويك، وسنة 1943 استقلال لبنان الجمهورية والوطن الرسالة والنموذج لكل بلدان العالم وشعوبها.
أما اليوم، وفيما نحن أبناء مارون نعيّد مار يوحنا مارون بطريركَنا الأول، فلنقف أمام الله وأمام ذواتنا، ونتساءل: أين نحن من روحانيتنا النسكية ودعوتنا إلى القداسة ؟ واين نحن من التزاماتنا التاريخية على المستوى السياسي والثقافي والوطني ؟ وهل أخطأ البطريرك الحويك، واللبنانيون معه، في إعلان دولة لبنان الكبير؟
إننا نجدّد اليوم التزامنا بالدعوة التي دعينا إليها منذ البدء، أي القداسة. لأننا مقتنعون بأن « المارونية هي في أساسها حركة روحية نسكية غير مرتبطة بأرض ولا بعرق ولا بقومية ولا بلغة. فهي منذ البدء فلسفة حياة العراء، إذ لا بيت لصاحبها إلا الهواء ولا سقف له إلا السماء»، كما يقول الأب ميشال الحايك. كل ذلك لأن « مؤسس المارونية هو راهب قديس. ففي القداسة بدايتُها، وفي القداسة ضمانتها، وفي القداسة استمراريتها، وبدون قداسة نهايتُها».
القداسة لا السياسة!
ونجدّد ولاءنا للبنان « وطنًا سيدًا حرًّا مستقلاً ونهائيًا لجميع أبنائه وعلى كامل أرضه» (دستور الطائف 1989- المجمع البطريركي الماروني، النص 19، العدد 29)؛ ولاءنا للبنان الكبير، للبنان الوطن الرسالة.
فالبطريرك الحويك واللبنانيون معه لم يُخطئوا في إعلان لبنان الكبير؛ لأن اللبنانيين، في وحدتهم وتضامنهم، يكبرّون لبنان ويجعلون منه واحةَ حرّيةٍ ونهضة وازدهار، وفي انقسامهم يصغّرون لبنان ويقزّمونه كلُ زعيم على قياسه ويقتسمون مغانمه.
في زمن الأزمات والحروب والتطرّف والإرهاب، لبنان يحتاج إلى قديسين أكثر منه إلى سياسيين. ولكن ! ولكننا جميعُنا مدعوون، ويخاصة السياسيون من بيننا، إلى أن نلتزم بخدمة مجتمعنا ووطننا ونضحّي في سبيل الخير العام، هذه هي السياسة، فيكون حضورنا فاعلاً وشجاعًا ومثابرًا في الحياة العامة، كلٌ من موقعه ووفقًا لدعوته ورسالته وإمكاناته الخاصة.
لأنه لا يمكننا « التخلّي عن المشاركة في السياسة، أي في النشاط الاقتصادي والإجتماعي والتشريعي والإداري والثقافي المتعدّد الأشكال الذي يهدف إلى تعزيز الخير العام، لا إلى المصالح الشخصية»، كما يطلب القديس البابا يوحنا بولس الثاني في إرشاده الرسولي رجاء جديد للبنان. (عدد 112).
ذلك لأن الوصول إلى مجتمع أكثر عدلاً وأكثر احترامًا لحقوق الإنسان يتطلّب منا المشاركة، كونها المدخل إلى تصويب الأمور.
ونحن واعون أهمية وخصوصية منطقتنا البترونية في دعوة لبنان التاريخية ورسالته المتجدّدة كما أرادها البطريرك الياس الحويك: رسالة حرية وكرامة وانفتاح واحترام للتعدّدية. وسنحافظ عليها بكل ما أوتينا من قوة لتبقى أرض القديسين بعيدةً عن أي استغلالٍ أخلاقي أو مادّي أو تجاري. وسنبقى نصلّي فيها إلى الرب يسوع، بشفاعة مريم والدة الإله وأرزة لبنان، ومار مارون ومار يوحنا مارون وجميع قديسينا وشهدائنا، طالبين نعمة الثبات في إيماننا وشهادتنا وبركةَ الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد له المجد إلى الأبد. آمين.