المطران اسطفان هيكتور الدويهي
نبيٌّ ماروني ورائد لبناني
المطران منير خيرالله
18/12/2014
يغيب اليوم نبيٌّ من أنبياء كنيستنا المارونية ورائد من روّادنا اللبنانيين، المطران اسطفان هيكتور الدويهي، ليدخل أرض الميعاد أورشليم السماوية حيث يلتقي جمهرة آبائنا القديسين ونبيَّيْن آخرين، الأبوين يواكيم مبارك وميشال الحايك.
منذ سنة بالتمام، عاد المطران الدويهي إلى لبنان ليقضي عطلة عيد الميلاد وكان يشعر في قلبه أنه يطأ أرض الوطن للمرة الأخيرة. فاصيب بجلطة دماغية نجا منها بشلل نصفي اضطر على أثره للعودة إلى بروكلين نيويورك للمعالجة الفيزيائية. وها هو يعود للمرة الأخيرة بعد خمس وأربعين سنة قضاها في أميركا ليدفن مع الآباء والأجداد.
انطلق بونا هيكتور من بلدته العريقة إهدن- زغرتا، حيث ولد سنة 1927، حاملاً أصالته المارونية وعشقه النسكي وثورته الكنسية المعجونة بالطاعة البنوية، إلى روما للدراسة؛ ومن لبنان من جديد إلى المكسيك فالولايات المتحدة الاميركية للخدمة الراعوية.
انه صاحب فكر خلاّق وتطلعات مستقبلية وصاحب رؤية.
دخل البونا هيكتور المدرسة الاكليريكية في غزير بعمر 14 سنة، ثم تابع دروسه الفلسفية في الاكليريكية الشرقية في جامعة القديس يوسف بيروت. سنة 1952، ذهب إلى روما لمتابعة دروسه وعاد منها سنة 1959 حاملاً شهادة دكتوراه في اللاهوت، ليخدم في رعيته إهدن- زغرتا (1959-1969). دشّن حياته الراعوية بتأسيس بيت الكهنة (1959)، المشروع الرائد في كنيستنا المارونية، مع الخوري ثم المطران آميل سعاده. وراح يحقق أفكاره الرائدة بمشاريع رعوية بدأت تخضّ المجتمعَيْن الكنسي والمدني القابعَيْن في تقليدية جامدة لا تحتمل التجدّد. ومن هذه المشاريع: إنشاء مكتبة بيت الكهنة (1962)، والمستوصف الصحي الذي تحوّل إلى مستشفى (1963)، وإحياء مهرجانات اهدن والزاوية (1964)، واحتضان حركة الشباب الزغرتاوي (1968).
ولكن ثورته الكنسية تفجرت مع مشاركته الفاعلة في نشر ملف « كنيستنا تحت مجهر المساءلة» في ملحق النهار الثقافي في كانون الأول 1968. وكانت مداخلات هذا الملف تطالب بالاصلاح والتجديد في الكنيسة تطبيقاً لتوصيات المجمع الفاتيكاني الثاني. وكانت أفكار الخوري هيكتور حصيلة عمله في الرعية وفي الرابطة الكهنوتية وفي تجمع كهنة الشمال وفي حركة كنيسة من أجل عالمنا التي ساهم بتأسيسها. فتفاعلت أفكار الخوري هيكتور في الكنيسة، واختمرت، بينما كان هو قد خرج، أو « أُخرج»، من لبنان إلى بلاد الله الواسعة. وحطّ في المكسيك لثلاث سنوات (1969-1972)، ثم في الولايات المتحدة الأميركية (1972-2014) حيث خدم كاهناً (1972-1996) ومطراناً (1997-2004). قام بعمل إصلاحي في الكنيسة انطلاقاً من الليتورجيا. فكان يسمّي الليتورجيا « الوطن الثاني للموارنة»، لأنها برأيه « الجامع الأصيل بين موارنة الأرض كلها». «لأن لبنان كوطن وكأرض لم يعد يجمع الموارنة في العالم ولم يعد يتّسع لهم. أما الليتورجيا فانها تجمع الكل وتتسع لهم وتغتني بخصوصياتهم».
إلى أن طلع نبيٌّ آخر، الأب يواكيم مبارك، وطرح فكرة المسيرة المجمعية في الكنيسة المارونية بهدف عقد مجمع لبناني جديد بعد المجمع اللبناني الأول الذي عقد سنة 1736 والقيام بالإصلاح والتجديد اللذين أصبحا ضرورة ملحّة في كنيستنا. وكان من الطبيعي أن نعود إلى الخوري ثم المطران هيكتور الدويهي ونستعين بأفكاره وخبرته الجديدة. وكنت أنا الوسيط، بصفتي أمين سرّ المجمع، ناقلاً أفكاره وتطلعاته.
وفي مساهماته في الأعمال المجمعية، كان يشدد على فكرة أننا « نحن الموارنة ليس لنا حياة في بلاد العالم إلا إذا كان عندنا ارتباط بلبنان الأرض، بما يمثل من إرث روحي، فهو مهد إيماننا، وأرض مقدساتنا، ومرقد قديسينا ومهوى أفئدتنا»، « وارتباط بشخص البطريرك وبالمؤسسة البطريركية في بكركي».
وفي الاحتفال برسامته الأسقفية في بازيليك سيدة لبنان- حريصا في 11 كانون الثاني 1997، وقد جاءت متأخرة جداً، شدّد على هذا الارتباط، وأعلن بوضوح لا لبس فيه، حين توجه إلى غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير قائلاً: « أنا المطران المعيّن في نيويورك أعلن خضوعي لك». ثم لجأ إلى الرمز لتوضيح فكرته، وقال: « الكنيسة في لبنان هي الكنيسة الأم، والكنيسة في الانتشار هي الكنيسة الابنة. والكنيسة الابنة تتغذى من حليب أمها. تنمو وتكبر، وتستقلّ، لكنها لا تنفصل أبداً عن أمها». «لقد طلبتم منا الذهاب والإنسلاخ، كما حدث في فجر المسيحية حين دعا مجمع الرسل بولس وبرنابا إلى ترك الكنيسة الأم، أورشليم، والانفصال عن الاخوة فيها، للانطلاق إلى الأمم، أمم العالم المنتظر والمشرِّع أبوابه الغريبة أمامهما. إنكم توجهوننا إلى بلدان الانتشار ورعاية كنيستنا المارونية فيها. فلا ننطلق لجمع الشتات فحسب، وللحفاظ على ما تبقى من أبنائها هناك، إنما نذهب أيضاً لكي نشهد ونبشر ونقوم بواجب الرسالة كما عرفتها منذ البدء الكنيسةُ الجامعة المقدسة الرسولية. بوجيز الكلام، إنكم توجهوننا إلى ممارسة صفة «الكثلكة» في الكنيسة، على حسب النكهة الانجيلية الخاصة المعطاة لـ « بيت مارون» وللكرسي البطريركي الانطاكي».
وكان يطالب في جلسات المجمع البطريركي الماروني (2003-2006) بحسن التعامل مع الانتشار وبكيفية فهمه بحقائقه ومواقفه وتطلعاته، لإبقائه داخل الكنيسة المارونية، فتكون كنيسة واحدة جامعة رسولية مسكونية.
من أهم التطلعات التي طرحها، ويجدر بنا أن نعود إليها اليوم في تطبيق المجمع البطريركي الماروني وبخاصة في التعاطي مع الإنتشار:
أ- إن كنيستنا المارونية تعي رسالتها ووجودها في العالم الجديد اكثر فأكثر، إذ إنها تواجه حضارةً جديدة بتقاليدها ولغتها وتاريخها الخاص. فالموارنة هنا ينتمون إليها ليس فقط بالولادة والوراثة، بل أيضاً بالاختيار الشخصي الواعي وبواسطة الزواج المختلط والعلاقات الاجتماعية.
إنها توفّر لنفسها الوسائل الرسولية الملتحقة بها والنابعة من جذورها وذلك في التعليم الديني والنشر والحركات الرسولية، بالاضافة إلى الطقوس.
إنها تسعى وراء «الجيوب» المارونية الضائعة في الأرض الأميركية وتوحّد صفوفها كي تؤسس النواة لرعايا جديدة فيها. فعدد «الرسالات» عندنا يزداد مع الأيام، بالاضافة إلى الرعايا القديمة المعروفة.
انها تشعر بارتياح أوسع لانتمائها الكاثوليكي إلى الكنيسة المحلية وإلى مجلس الاساقفة المحليين- بعد أن خرجت من ظلّ الحماية اللاتينية والتجأت إلى نظامها وقوانينها الخاصة في تدبير شؤون أبنائها.
إن هذا الوضع يجعلها تنظر إلى المستقبل نظرة حافلة بالرجاء المسيحي، بالرغم من الوسائل المحدودة التي بين يديها والصعوبات المتنوعة التي تقف بوجهها.
ب- إلا أن كنيستنا في الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تعيش مرحلة «انتقالية» : انها تجد نفسها في تجاذب مستمّر، في هذا الوقت، بين الماضي والحاضر، بين الماضي في جذوره القوية وبين الحاضر في نداءاته الملحّة اليومية. فالماضي يتمثّل في الجزء الواسع من الموارنة أصحاب الهجرة الحديثة الذين لم يتجذروا تماماً في الأرض الجديدة، والحاضر يتمثل بالاجيال الطالعة التي لا تشعر بارتباط مباشر حسّي بالأرض واللغة والتاريخ وسائر التقاليد.
الصعوبة تقوم بأن يبقى هذا التجاذب لا عنصر تفرقة وإضعاف، بل عنصر خير واندفاع، بأن يبقى حياً وواعياً ومفيداً يتمسّك من ناحية بالجذور التي تعطي الكنيسة هويتها وأصالتها « ومارونيتها»، ويربط من ناحية أخرى بالدعوة والحاجة الحاضرة التي تعطي للكنيسة معنى لوجودها ورسالتها واستمراريتها.
ج- إن هناك مبادئ أساسية يجب أن يقوم عليها أي عمل وأيّة رؤية للمستقبل، منها:
في الختام، نقول إن المطران اسطفان هيكتور الدويهي حمل شعلة الكلمة، كلمة الله، بنكهتها المارونية، مستمعاً إلى إلهامات الروح، وأحرق فيها الأفئدة والقلوب أينما حلّ. إنه محرِّك في الكنيسة، لا يدع أحداً فيها ينام على أمجاد أو تقاليد، بل يدعو باستمرار إلى تجدّد مستمّر.
فكره الماروني العميق والنبوي خوّله أن يتوجّه إلى موارنة الانتشار بأسلوبهم، وإلى موارنة الكنيسة الأم في لبنان والنطاق البطريركي بطريقتهم. فالجميع ينظر إليه على أنه القاسم المشترك، ونقطة الالتقاء والإرتقاء في آن.
هذا هو برأينا مظهر من مظاهر عبقرية المطران اسطفان هيكتور الدويهي !