الإحتفال بإعادة إحياء جدرانيات كنيسة مار سابا في إده البترون
السبت 16 تشرين الثاني 2013
أنهى المرمم البروفسور فلاديمير سارابيانوف مع مجموعة من المحترفين الروس أعمال ترميم جدرانيات كنيسة مار سابا الأثرية في بلدة إده قضاء البترون والتي استمرت على مدى العامين الـ 2012 والـ 2013 واظهرت روعة الصور وجمالها بتمويل من "جمعية فيليب جبر" التي تخصص مبلغا معينا سنويا لترميم كنيسة مارونية.
ومع إنجاز العمل أحتفلت رعية مار سابا و"جمعية ترميم ودراسة جدرانيات كنائس لبنان في العصور الوسطى" بتدشين الأعمال في حضور راعي أبرشية البترون المارونية المطران منير خيرالله، المطران بولس إميل سعاده، السفير الروسي ألكساندر زاسيبكين ممثلا بعقيلته السيدة إيلينا والملحق الثقافي في السفارة الروسية سيرغي فارابيوف، قائمقام البترون روجيه طوبيا، رئيس بلدية إده المحامي نسيب شديد، رئيسة جمعية ترميم الجداريات الدكتورة راي جبر معوض وأعضاء الجمعية، مختار البلدة غابي حنا، كاهن الرعية الخوري إيلي سعاده، بالاضافة الى عدد من موظفي وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار وعدد من المهتمين بالاضافة الى اهالي البلدة ولجنة الوقف.
بداية رحب عضو لجنة الوقف طوني ضومط بالحضور ثم قدم البروفسور سارا سانوف عرضاً مصوراً عن الجداريات قبل وبعد ترميمها ومعلومات عن الهندسة والجداريات وعملهم في الكنيسة. وتوجه الى أهالي البلدة مثمنا أهمية كنيسة مار سابا بالقول: "لديكم كنز كبير وعليكم أن تحافظوا عليه."
وشرحت عضو جمعية المحافظة على الجداريات الدكتورة ندى الحلو الجداريات والمشاهد والصور. وشكرت لوزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار تعاونهما لانجاز أعمال الترميم.
وألقى الخوري سعاده كلمة قال فيها: "لقاؤنا الثقافي اليوم سيبقى في ذاكرة شبيبتنا وسيكون مدعاة افتخار لهم. وشكر للفريق الروسي وجمعية المحافظة على الجداريات وجمعية فيليب جبر على إعادة إحياء الجداريات "بفضلكم قديسو هذه الكنيسة عادت لهم عيونهم وأفواههم وأيديهم."
بعد ذلك قدم أبناء البلدة ومن وحي العادات والتقاليد الروسية خبزاً وملحاً وزيتاً لممثلي السفير الروسي، وقدم الخوري سعاده هدية رمزية للسفير الروسي تسلمتها زوجته وهي كتاب الصلوات المارونية باللغة السريانية والمعروف بالشحيمة مطبوع منذ 200 سنة.
خيرالله
أما المطران خيرالله فتوجه الى الدكتورة راي بالقول: "أنت اليوم تعيدين كتابة التاريخ من جديد في قلب كل واحد منا وخصوصاً في قلب شبيبتنا"وقال: "الشعب الذي ليس له تاريخ لا يستطيع بناء المستقبل والتاريخ لم نكن نكتبه ولم يكن لدينا كتباً بل كنا نقرأه ونتعلّمه، كما كنا نتعلم تعليمنا المسيحي، من خلال هذه الايقونات التي كانت ترسم في كنائسنا كما كان يقول مار يوحنا الدمشقي. هكذا كان شعبنا يتعلم، وكان شعبا مثقفا بدينه وبايمانه بفضل هذه الايقونات."
وأضاف: إذا مرت علينا فترات، مئات السنوات، شهدت تراجعاً لوعينا لتاريخنا، فذلك بسبب خطة تجهيلنا وتدميرنا من خلال تدمير التاريخ. واليوم معكم، مع جمعية المحافظة على الجداريات برئاسة الدكتوة راي معوض والبروفسور فلاديمير وكل الذين ساعدونا لنعيد كتابة تاريخنا في قلوبنا وفي قلوب أولادنا، فهذا يعني أن لنا رجاء كبيراً بأن أولادنا وأجيالنا الطالعة سيعيدون بناء مستقبلهم من جديد." وقال: "بيننا وبين الكنيسة الروسية تاريخ كبير وتواصل. ففي قلب موسكو توجد كنيسة على إسم مار مارون، وفي العام الماضي زارها البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي حاملاً اليها ذخيرة القديس مارون التي يحتضن قسماً كبيراً منها دير مار يوحنا مارون في كفرحي بعد أن استعادها المطران بولس اميل سعاده سنة 2000 بعد 870 عاماً. اليوم أصبح بإمكاننا أن نصلي معاً، نحن وهم، لأن قديسينا يجمعوننا. فلنتطلع الى مستقبلنا الكبير ونلبي دعوة الله الى القداسة. أرضنا هي أرض قداسة وعائلاتنا أعطت قديسين لأن آباءنا وأمهاتنا وأجدادنا كانوا يربون على القداسة فأعطوا قديسين. ونحن أيضا قادرون أن نكون قديسين ونربي قديسين."
وختم شاكراً السفير الروسي والفريق الروسي بإدارة البروفسور فلاديمير وجمعية فيليب جبر على إعادة إحياء الرسومات في كنيسة مار سابا.
لمحة تاريخية
شهد فن الجداريات في كنائس المنطقة، (سوريا ولبنان وفلسطين) أكبر ازدهار له في الفترة الصليبية وقد تعود هذه الصور في معظمها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر على الاجمال. وتجدر الإشارة إلى أن فن الجداريات بالرغم من توافره في الفترة الصليبية، كان متصلاً ومتأثراً بالتراث البيزنطي.
تتميز كنائس لبنان بأحجامها المحدودة وبتصاميمها المؤلفة من صالة واحدة أو جناح واحد، ولكن ثمة كنائس تحتوي على تصميم بازيليكي أي تتألف من جناح وسطي ورواقين جانبين. فكنيسة مار سابا تنتمي إلى هذه العمارة. ويقترب هذا النموذج من التراث الرومانسكي الذي كان سائداً في أوروبا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر والذي وصل إلينا مع الصليبين.
إن فن الجدرانيات المنتشر في منطقة جبل لبنان قد يتميز بتنوعه واختلافه على المستوى الأيقونوغرافي وكذلك على مستوى الأسلوب. وهذه الجداريات موجودة في كنائس تنتمي إلى مختلف الطوائف المسيحية التي سكنت آنذاك جبل لبنان من روم أرثوذكس وموارنة ويعاقبة.
وتتراوح أساليب الصور من الأسلوب ذات الطابع المحلي إلى الأسلوب ذي التأثير البيزنطي. فنجد في جدرانيات مار سابا كلاً من هذين الأسلوبين.
كنيسة مار سابا في إده البترون
كانت هنا دون شك كل جدران الكنيسة مغطاة بالصور لكن لم يتبق منها سوى مقتطفات مشتتة. فمن مشهد رقاد العذراء الموجود على الحائط الشمالي لم يبق سوى وجوه بعض الرسل والأساقفة وجزء من المسيح يحمل روح أمه والملائكة بقربه. وتعرَف كتابات بالأحرف السطرنجيلية عن كل من التلاميذ كما وهناك كتابة تقول "يعقوب أخو الرب". يتميز الرسم هنا بشيء من الرقة والشفافية. صفات لم نجدها إلا في بيزنطيا. لم تعد الوجوه مبسطة على مثال صور كنيسة بحديدات أو معاد، بل كونتها بعض الظلال الخضراء التي تعطيها حجماً معيناً، كما تخضع الوجوه إلى خطوط منمنمة تزودها بنفس مأسوي ودينامي. وهذا الأسلوب يذكر بالنمط الذي كان سائداً في بيزنطيا منذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر والذي تميز بخطوطه المضطربة ودينامية تآليفه وتعبيريته العميقة. وقد سمي هذا النمط الذي انتشر في جميع أنحاء العالم البيزنطي بـ "الحركية الكومنينية المتاخرة" (maniérisme comnénien tardif ).( تـطلق هذه التسمية نسبة لسلالة الأباطرة الكومنينوس الذين حكموا بيزنطيا في القرن الثاني عشر). لاقى هذا الأسلوب الذي نجده في إده أصداء له في مجموعة كبيرة من الرسوم البيزنطية التي تعود إلى أواخر القرن الثاني عشر. وقد انتشر هذا النمط في جميع أنحاء العالم الأورثوذكسي وغير الأرثوذكسي في أوروبا فنجد أصداء له في صقلية كما وصل حتى أطراف روسيا. ووجوه كنيسة إده لا تبتعد من حيث أدائها وقوة تعبيرها من ذاك الأسلوب الذي درج آنذاك في بيزنطيا والذي بلغ أبعد أطرافها. ولجداريات إده، حسب اعتبارنا، صلة، بطريقة أو بأخرى، مع "الحركية الكومنينية المتأخرة" التي ظهرت هنا بصيغتها المحلية. قد يكون دون شك الرسام الذي صورها على معرفة بتلك النماذج البيزنطية.
وفي كنيسة إده مشهد آخر لا يقل أهمية عن الأول هو صورة الصلب التي كانت، قبل عملية الترميم لم تظهر منها سوى صورة العذراء التي تبكي إبنها. أما باقي الوجوه فكانت ممحوة وغير مرئية. كشفت عملية الترميم عن صورة الصلب التي تجلت بكل روعتها. الوجوه هنا نبيلة، ورقيقة ملامح، حيث تبدو الظلال بوضوح مما يشدد على القوة التعبيرية. لهذا المشهد ارتباط وثيق مع الفن الذي كان سائداً في بيزنطيا في أواخر الثاني عشر- أوائل الثالث عشر. لذلك نستطيع أن ننسب جدرانيات كنيسة إده إلى أواخر الثاني عشر-أوائل الثالث عشر. وقد يعود تنفيذها إلى فنان بيزنطي. لكن يوجد على الحائط الجنوبي مشهد يصور العذراء والطفل وإلى اليسار جزء من حصان أبيض وفي الزاوية العليا نرى يداً ممدودة: قد يكون هذا الحصان لصاحبه مار جرجس الذي تباركه يد الله. لهذا المشهد أي العذراء ومار جرجس طابع محليّ واضح، يختلف كل الاختلاف عن المشهدين السابقين وهو أقرب إلى أسلوب بحديدات، حتى أننا نستطيع اعتبار كلا الجداريتين من مصدر واحد قد يكون نفس المحترف أو حتى نفس الفنان. وهذه الصور الأخيرة تعود إلى النصف الثاني من القرن الثالث عشر.
هكذا شهدنا في كنيسة واحدة في لبنان عدة أنماط، تختلف أحياناً حتى التناقض. وهذا ما يدل على تواجد مدارس مختلفة أو بالأحرى على محترفات فنية تعايشت في القرون الوسطى وربما تنافست في ما بينها. وإن الوجود البيزنطي الملحوظ قد يعود إلى تواصل العلاقة مع الإمبراطورية المسيحية، واستمداد النماذج الفنية منها بالرغم من البعد السياسي والفواصل الجغرافية والإدارية، وبالرغم من الإنشقاقات والخلافات عند بعض فئات مسيحيي المشرق مع العاصمة. فظل هؤلاء يستوحون فنهم من المنبع الأساسي. ومع هذا تغلب العناصر المحلية التي تطغي أحيانا والتي تدل على احتفاظ المسيحيين هنا بلغة فنية خاصة بهم، قد تعود جذورها إلى أوائل المسيحية، حيث شهدت المنطقة فترة من الازدهار.