عظة المطران خيرالله في قداس عيد الميلاد- الكرسي الأسقفي كفرحي 25-12-2013

عظة المطران منير خيرالله

في قداس عيد الميلاد

25/12/2013، في الكرسي الأسقفي- كفرحي 

 

« وكانت مريم تحفظ كل هذه الأمور وتتأملها في قلبها» (لوقا 2/19).

سرُّ الله، والله محبة، كُشف لنا بالابن يسوع المسيح. ووعدُ الله بالخلاص تحقق بولادة الابن يسوع المسيح إنسانا بيننا ومثلنا.

كانت البشرية منذ آلاف السنوات تعيش في انتظار مجيء المخلص، وكان الله يتابع مسيرة تدبيره الخلاصي، مع الشعب الذي اختاره، بواسطة الآباء والأنبياء.

ولما تمّ الزمان، وفيما كان الناس منهمكين بأشغالهم وهمومهم ومصالحهم، أصدر القيصر أغسطوس من روما أمراً بإحصاء كل المعمورة التابعة لأمبراطوريته بهدف أن يضبط الأمور ويجمع الضرائب؛ وكان على قيرينيوس والي سوريا أن ينفذ الأوامر. وكان على جميع الناس أن يكتتبوا كل واحد في مدينته. وكان على يوسف، وهو من بيت داود وعشيرته ويعيش في ناصرة الجليل، أن يذهب الى مدينته الأصلية بيت لحم في اليهودية ليكتتب هو ومريم خطيبته وكانت حاملاً.

وصلا الى بيت لحم كالغرباء لأنه لم يكن لهما فيها موطىء قدم، ولم يجدا مكاناً ينزلان فيه، ولا حتى في بيت الضيافة.

« وفيما كانا هناك تمّت أيامها لتلد. فولدت ابنها البكر، فقمطته وأضجعته في مذود». عرفت مريم في قلبها أن إبنها المولود هو يسوع المسيح المخلص الموعود؛ وهو ابن العليّ، وسيملك على بيت يعقوب أبد الدهر»، كما كان قد قال لها الملاك يوم بشرها. إنه سرّ الله المولود إنساناً.

لكنها حفظت كل هذه الأمور في قلبها، وتركت لله أن يتابع مسيرة تدبيره الخلاصي.

في خضمّ صمت مريم وفي ظلمة الليل، أشرق نور من السماء، وحضر ملاك الرب على الرعاة الذين كانوا في تلك الناحية يبيتون في البرّيّة ويتناوبون السهر في الليل على رعيتهم. فقال لهم الملاك:« لا تخافوا ! ها إني أبشركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كله: وُلد لكم اليوم مخلص في مدينة داود، وهو المسيح الرب». إنه إعلان سرّ الله.      

اختار أن يولد في الفقر مهجّراً، وأن يولد في بلده غريباً؛ وأن يولد في مذود حقير بعيداً عن قصور الملوك وهو ملك الملوك.

كل ذلك لأنه أراد بولادته أن يحتضن البشرية كلها: من أفقر إنسان حتى الأغنى، ومن أصغر إنسان حتى الأكبر، ومن أقلّهم شأناً حتى الأعظم مرتبةً. محبته للبشر جعلته يخلي ذاته الإلهية ليصير إنساناً ويتبنّى الإنسانية الضعيفة المستعبدة للخطيئة ليغنيها ويحرّرها بموته وقيامته ويرفعها الى مستوى الألوهة.

إنه سرّ الله يُكشف للرعاة البسطاء، ولمن يريد أن يؤمن.

والشهود الأولون على إعلان هذا السرّ كانوا:

أولاً الملائكة في السماء الذين راحوا يسبحون الله ويقولون: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام.

وثانياً الرعاة على الأرض الذين راحوا يمجدون الله ويسبحونه ويخبرون بما قيل لهم عن ذلك الطفل.

وثالثاً مريم التي راحت تحفظ كل هذه الأمور وتتأملها في قلبها.

بينما شعبه وأهل بيته، الذين كانوا ينتظرونه وكان من المفترض أن يتسارعوا إليه، لم يعرفوه أو لم يريدوا أن يعترفوا به؛ لأنهم كانوا ينتظرونه ملكاً قديراً جباراً يبطش ويحارب ويستعيد المُلك. خاب أملهم؛ فتركوه وشأنه. وبعيداً عنهم، جاء المجوس، بعد الرعاة، من بلاد فارس ليتعرفوا إليه ويسجدوا له ويقدّموا له أغلى الهدايا.

صحيح أن يسوع ابن الله وُلد مرة واحدة وأخيرة دخل فيها التاريخ والجغرافيا عبر عائلة الناصرة في بيت لحم وأرض اليهودية وفلسطين وسوريا؛ ولكنه يولد كل سنة وكل يوم، ويولد اليوم على أرضه التي أرادها أرض السلام والوئام والعيش معاً؛ ويولد بين شعبه الذي أراده شعبَ الله المتجدّد بالمحبة والعدالة والسلام.

لكن هذه الأرض لا تزال بعد ألفي سنة كرة نارٍ مشتعلة وفريسة الحروب والتقاتل، وهذا الشعب لا يزال يعاني من الاحتلال والتخريب والدمار بسبب تنفيذ مؤامرات ومصالح أباطرة هذا العالم وسلاطينه من أغسطوس الى قيرينيوس وهيرودس وبيلاطس وغيرهم في وجوه جديدة. ولا يزال هذا الشعب يدفع الثمن موتاً واضطهاداً وظلماً  وتهجيراً  وإذلالاً. ولا حق له في الحياة على أرضه أو في تقرير مصيره.

هل نرضى نحن بهذا الواقع الاليم؟ وهل يرضى يسوع أن نبقى متفرّجين؟ مع أنه يولد في كل طفل وفي كل عائلة مهجرّة وغريبة في مصر وفلسطين والأردن وسوريا وتركيا والعراق ولبنان.

إنهم بالملايين، مسيحيين ومسلمين، ويعيشون في حالة يرثى لها، لا مأوى لهم سوى الخيمة المؤقتة والمحرومة من كل مقومات الحياة الكريمة.

فهل نتعرف الى يسوع المولود فيهم؟ أم أننا نتركه وشأنه ونغرق في همومنا وانشغالاتنا ومصالحنا؟

هل سنسمع في هذه الليلة، وفي ظلمة الحقد والضغينة والانتقام، ملاك الرب يبشرنا بفرح عظيم يكون لشعوبنا كلها: أي بولادة بلداننا في السلام المنشود؟

هل سيتّعظ المسؤولون في العالم وفي بلداننا الشرق أوسطية وفي لبنان بالذات ويرضون أن يتواضعوا ويتخلّوا عن أنانياتهم ومصالحهم في سبيل أن يسمحوا للبنان بأن يولد من جديد، ولبلدان منطقتنا بأن تعرف الأمن والاستقرار والسلام الحقيقي، فيعود إليها أبناؤها، جميع أبنائها، ليعيشوا معا بالوفاق والاحترام والحرية؟

هذا هو رجاؤنا، وهذه هي أمنية ميلاد 2013، بشفاعة مريم العذراء التي لا تزال تحفظ كل هذه الأمور في قلبها وتشفع بنا. آمين.

Photo Gallery