عظة المطران خيرالله في عيد مار مارون- كفرحي 9/2/2021

 

عظة المطران منير خيرالله

 

في قداس عيد مار مارون

 

دير مار يوحنا مارون- كفرحي، 9/2/2021

 

452 

 

« من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني » (متى 16/24)،

 

 

يحلّ علينا عيد أبينا مار مارون هذه السنة ونحن في حالة استثنائية مأساوية نعاني فيها من أزمة اقتصادية واجتماعية وضائقة معيشية وكارثة صحية.

 

لكن هل هي المرة الأولى في تاريخنا الطويل وفي مسيرة كنيستنا وشعبنا التي نصل فيها إلى مثل هذه الحالة ؟

 

لقد تمرّسنا على حمل الصليب بشجاعة الصامدين ورجاء الصابرين منذ أن اختار أبونا الروحي مار مارون في القرن الرابع أن يعيش راديكالية الإنجيل في حياة نسكية تميّزت بالعيش في العراء على قمم الجبال والتزام الزهد بالعالم والصلاة والسهر والصوم والتقشف والابتهال إلى الله في علاقة عمودية ومباشرة معه، وبالعمل في الأرض ليعيش منها بحرية وكرامة، وبالانفتاح على الناس لدعوتهم إلى الخلاص بيسوع المسيح.

 

أسّس مار مارون مدرسة في الروحانية النسكية ووضع مقوّماتها، فكانت روحانية الصليب. فهي في بُعدها العمودي روحانية تتماهى بالمسيح المعلّق على الصليب بين الأرض والسماء ليرفع البشرية إلى الله الآب بالروح القدس ويفتديها بموته وقيامته.

 

وهي في بُعدها الأفقي رسالة انفتاح على الناس والشعوب والحضارات والثقافات حاملةً بشارة الانجيل في المحبة والحرية والكرامة.

 

فتتلمذ على يده الكثيرون: منهم من بقي في شمال سوريا، فأسسوا دير مار مارون على العاصي، وغيره من الأديار، لعيش روحانية مار مارون وللدفاع عن الإيمان في الكنيسة الجامعة.

 

ومنهم من جاء مبشرًا إلى جبل لبنان، « موطئ قدم الله والجبل المقدس الذي يسكن فيه أولياء الله »، كما يقول البطريرك الدويهي. فسكنوا في جبال جبيل والبترون والجبّة، وعاشوا مقوّمات الروحانية النسكية وحوّلوا المعابد والهياكل الفينيقية إلى كنائس وأديار تبشّر بالإله الواحد والثالوث وتجمع المسيحيين الجدد تحت إسم شعب مارون في الكنيسة الأنطاكية.

 

كانت هذه انطلاقة التأسيس الأول.

 

أما التأسيس الثاني فكان مع مار يوحنا مارون البطريرك الأول في أواخر القرن السابع الذي نظّم شعب مارون في كنيسة، كانت الكنيسة البطريركية على اسم مارون ضمن كنيسة انطاكية. فصمد، بفضل إيمانه ووحدة شعبه حول شخصه، في وجه تقدّم الامبراطورية الإسلامية على حساب الامبراطورية البيزنطية.

 

أما التأسيس الثالث فكان مع البطريرك اسطفان الدويهي في أواخر القرن السابع عشر والمجمع اللبناني في أوائل القرن الثامن عشر، وقد استفادوا من انفتاح الكنيسة المارونية على الغرب في أيام الأمير فخر الدين من أجل تأسيس الكيان اللبناني، ومن مكتسبات الحداثة مع تلاميذ المدرسة المارونية في روما ومن الاصلاح الرهباني. فأطلق التأسيسُ الثالث الكنيسةَ المارونية في رسالة أممية تخطّت حدود لبنان إلى الشرق فإلى الغرب كنسيًا وثقافيًا وحضاريًا.

 

وكلّل هذه المرحلة البطريرك الياس الحويك باسم اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، بتحقيق رغبتهم بإعلان دولة لبنان الكبير، دولة المواطنة يتساوى فيها المواطنون بانتمائهم إلى وطنهم قبل انتمائهم إلى طائفتهم.

 

يا أبناء مارون،

 

في عيد مار مارون، وبعد مائة سنة على إعلان دولة لبنان الكبير، أسمح لنفسي بأن أقوم معكم بوقفة وجدانية أمام الله وأمام الضمير، لأتساءل:

 

أين نحن اليوم من مقوّمات روحانيتنا ومن القيم التي حملناها، وأهمها الحرية والكرامة وحبّ الثقافة والتعاضد والتكوكب حول الرأس الواحد، البطريرك، سرّ وحدتنا واستمراريتنا ؟

 

أين نحن اليوم من دورنا الرياديّ كنسيًا وثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا ؟

 

أين نحن اليوم من العمل السياسي الشريف والنزيه والمسؤول الذي يقود الشعب نحو التنمية والرقيّ في دولة تحترم القوانين وتحقق العدالة والمساواة بين مواطنيها ؟ أو أننا غرقنا في أوحال السياسة والفساد والمحاصصة والمحسوبية ؟

 

هل تركنا أنفسنا ننجرّ في التنكّر لصيغة لبنان الكبير ؟ وهل كنّا على قدر طموحات البطريرك الحويك وأقرانه في دولة المواطنة ؟ أم أننا فشلنا في بناء الدولة الحديثة ؟ دولة حقوق الإنسان ؟

 

وإلى المسؤولين السياسيين أقول:

 

نحن نحمل الصليب منذ قرون لأنه في صُلب روحانيتنا الخلاصية. لكن هلاّ حملتم معنا اليوم الصليب، أو بالأحرى هلاَّ حملتم عنّا الصليب ! بدلاً من أن تبقوا في قصوركم تنعمون بالغنى « وتلبسون الأرجوان والكتّان الناعم وتتنعّمون تنعُّمًا فاخرًا »، ولا تبالون بشعبكم الفقير الذي أصبح مثل لعازر على أبوابكم وعلى أبواب الأمم « يشتهي أن يشبع من فتات موائدكم »! وهي الحالة التي يشرحها السيد المسيح في مثل الغني ولعازر (لوقا 16/19-31).

 

ولكن طالما أنتم على قيد الحياة، فالله يعطيكم الفرصة لتتوبوا فتلتفتوا إلى شعبكم وتعوّضوا عليه ما سلبتموه من ماله والمال العام الذي تقاسمتموه في ما بينكم وربما هرّبتموه إلى الخارج !

 

توبوا قبل فوات الأوان واعتذروا من شعبكم. وإلاّ سيكون مصيركم يوم الدينونة أن تتعذبوا في اللهيب الأبدي ولن تستطيعوا أن تتواصلوا مع شعبكم وهو ينعم في الملكوت !

 

أعطنا يا رب في عيد أبينا مار مارون أن نعود إليك تائبين، وأن نبقى في إيماننا ورجائنا ثابتين، وصليبَنا الخلاصيّ حاملين، وأن نواجه تحدّيات الزمن واقفين، فنعمل معًا موحَّدين متضامنين، على جمع إخوتنا اللبنانيين، وعلى إعادة بناء بيتنا المشترك لبنان الرسالة، دولةً حديثة، تحمل رسالة العدالة والأخوّة والعيش الواحد واحترام التعدّدية. آمين.