عظة المطران منير خيرالله
في قداس البحر- البترون
الأحد 4 تموز 2021
« يا ربّ نجّنا، لقد هلكنا !» (متى 8/25).
نحتفل هذه السنة بقداس البحر، على نية شهدائنا البحارة، مُجدِّدين إيماننا ورجاءنا بالمسيح قبطان السفينة، بالرغم من الظروف الكارثية التي تمرّ على وطننا لبنان وتكاد تُفقده هويته، وعلى دولتنا الواقفة على حافة الإنهيار، بينما شعبنا يعاني من أزمات اقتصادية ونقدية واجتماعية وسياسية أوصلته إلى حالة ذلٍّ وفقرٍ وبطالة وعوز وأجبرت الكثير من عائلاتنا وشبابنا على الهجرة. وهي ظاهرة لها انعكاسات خطيرة على هوية لبنان ودوره ورسالته.
هذا ما حدا بقداسة البابا فرنسيس، الحامل هموم لبنان والخائف على مستقبله كوطن رسالة ونموذج في العيش المشترك، إلى أن يدعو « ليوم تفكير وصلاة حول لبنان » في الفاتيكان في الأول من تموز تحت شعار « لدى الرب الإله مشروعُ سلام – معًا من أجل لبنان »، علّه يلفت انتباه العالم وكباره ومسؤوليه إلى خطورة الوضع، لأنه لم يبقَ لنا سوى الصلاة والابتهال إلى الله والتوجّه إلى الرب والمعلّم يسوع المسيح النائم الحاضر في السفينة، فنقول له كما قال له التلاميذ: « يا ربّ نجّنا، لقد هلكنا !» (متى 8/25).
ألا ترى يا ربّ أننا اليوم نُبحر في بحرٍ شديد الاضطراب وأننا نكاد نغرق ؟
ألا ترى يا ربّ أننا نعيش في مجتمعٍ يقف على شفير الهاوية ودولةٍ وصلت إلى الإنهيار جرّاء الفشل السياسي والانحطاط الأخلاقي وتسلُّطِ طبقةٍ سياسية تعتنق الفساد والغش والبرطيل والسرقة وسيلة للتحكّم بالسلطة ؟ « وما كنا نتصوّر يومًا أن يبلغ لبنان، منارةُ الشرق ولقاء الحضارات، هذا الدّرْك من الانحطاط والتقهقر »، « وأننا أمام مخطّط يهدف إلى تغيير لبنان بكيانه ونظامه وهوّيته وصيغته وتقاليده »، كما يردّد غبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي.
ألا ترى يا ربّ أن وطننا لبنان، الوطن الرسالة والنموذج، يتهاوى ويكاد يفقد هويته ودوره ورسالته؟ وهو الهاجس الذي يحمله معنا قداسة البابا فرنسيس، وقد قال في كلمته في الأول من تموز: « اجتمعنا اليوم لنصلّي ولنفكّر معًا، يدفعنا القلق على لبنان، قلق شديد، إذ نرى أن هذا البلد، الذي أحمله في قلبي، يتعرّض لأزمة خطيرة ». « هذا البلد الحبيب، كنزُ الحضارة والحياة الروحية، الذي شعّ الحكمةَ والثقافة عبر القرون، والذي يشهد على خبرةٍ فريدة من العيش السلميّ معًا، لا يُمكن أن يُترَك رهينة الأقدار أو رهينة الذين يسعون بدون رادع ضمير وراء مصالحهم الخاصة. لبنانُ بلد صغير كبير، وهو أكثر من ذلك: هو رسالة عالمية، رسالةُ سلام وأخوّة ترتفع من الشرق الأوسط ».
وأضاف متوجهًا إلى اللبنانيين: « أنتم أعزائي اللبنانيين، لقد تميّزتم على مرّ القرون، حتى في أصعب اللحظات، بروح المبادرات والاجتهاد. أرزُكم العالي، رمزُ بلدكم، يُذكِّر بغنى تاريخكم الفريد وازدهاره... لا تيأسوا ولا تفقدوا روحكم، إبحثوا في جذور تاريخكم عن الرجاء لتزهروا وتزدهروا من جديد ».
وتوّجه إلى « كل من في يده السلطة » قائلاً: « فليضعْ نفسه نهائيًا وبشكل قاطع في خدمة السلام، لا في خدمة مصالحه الخاصة. كفى أن يبحث عددٌ قليل من الناس عن منفعةٍ أنانية على حساب الكثيرين ! كفى أن تسيطر أنصاف الحقائق على آمال الناس ! كفى استخدام لبنان والشرق الأوسط لمصالح ومكاسب خارجية !».
وأنا بدوري أتوجّه إلى جميع اللبنانيين، وبخاصة إلى شبابنا وصبايانا قائلاً لهم:
بالرغم من كل ما تعانون، وبالرغم من العواصف والأمواج التي تضرب سفينة الكنيسة والمجتمع والوطن، ندعوكم إلى أن تكونوا رسل الرجاء وتطمئنّوا على مصيركم ومصير كنيستكم ووطنكم. ربُنا يسوع المسيح هو سيد البحر، « يأمر الرياح والعواصف فتطيعه، ويحدث هدوء تام » (متى 8/26). وهو يبحر معنا، ولو بدا نائمًا، ويعيش معاناتنا، ويوبّخنا قائلاً، « ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان ؟ ثقوا، أنا هو، لا تخافوا !»
الأمواج والعواصف تضرب سطح البحر، ولكنها لا تهزّ عمقه !
تعالوا إذًا نبتعد إلى العمق بسفينتنا التي تمثّل كنيستنا ووطننا؛ فنتخلّى عن مصالحنا الخاصة وعن تفاهاتنا الصغيرة ومهاتراتنا وحملاتنا الإعلامية. تعالوا نطلب المغفرة من الله ومن بعضنا البعض ونتصالح ونتوحّد ونكتف الأيدي في سبيل الحفاظ على رسالة كنيستنا وإعادة بناء وطننا في دعوته التاريخية. العواصف لن تستمرّ إلى ما لا نهاية، فهي عابرة !
آمنوا بقدراتكم على بناء مستقبلٍ لكم في دولة حديثة، دولة المواطنة والقانون. توحّدوا في سبيل إيصال طبقة سياسية جديدة تمثّلكم وتحقّق آمالكم وطموحاتكم. وعندما يعود الهدوء بعد العاصفة، تكونون أنتم أبطالَ العهد الجديد وأنبياءَ الحق ورسل المحبة والسلام في عالم تحاول فيه الذئاب الخاطفة أن تفترس الحملان وتبدّد من يرعاها؛ فتبنون معًا، كمواطنين متساوين، لبنان الجديد، بشفاعة العذراء مريم سيدة لبنان وسيدة البحار.