عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد القديس نعمة الله الحرديني
دير مار قبريانوس ويوستينا - كفيفان، الثلاثاء 14/12/2021
« إتبعاني فأجعلكما صيادَّين للناس » (متى 4/18-25)
نحتفل اليوم معًا، وفي ظل الظروف الصعبة التي نعيشها، بعيد أحد شفعائنا القديس نعمة الله الحرديني في الدير الذي لبَّى فيه دعوة الله وعاش وتقدّس.
في التأمل بالانجيل الذي اختارته الكنيسة لهذا العيد نستنتج رسالة يسوع المثلثة الأبعاد: يسوع يدعو رسلاً وتلاميذ، يسوع يعلّم ويكرز بإنجيل الملكوت، ويسوع يشفي الشعب من كل مرض وعلّة.
أولاً، دعا يسوع أشخاصًا من كل طبقات المجتمع ومن كل المواهب ليتبعوه في طريق الخلاص. دعاهم ليحملوا الرسالة التي من أجلها صار إنسانا ومن أجلها سيضحي بذاته موتًا على الصليب وقيامةً تعطي للبشر الحياة الأبدية. هم الرسل والتلاميذ الأولون، لبّوا الدعوة وتقدّسوا واستشهدوا باسم المسيح. وراحوا بدورهم يدعون في الكنيسة خلفاء لهم وكهنة ومعلّمين وأشخاصًا من كل المجتمع لتلبية دعوة المسيح ولمواصلة رسالة المسيح الخلاصية في الكنيسة وفي العالم.
ثانيًا، كان يسوع يعلّم ويكرز بإنجيل الملكوت. حمل يسوع بشارة الخلاص، ودعا الناس إلى أن يتوبوا، لأن ملكوت السماوات قد اقترب، كما كان يبشّر يوحنا المعمدان. كان يكرز بتحقيق الملكوت، ملكوت المحبة والسلام والمصالحة والعدالة بين البشر.
ثالثًا، كان يسوع يشفي الشعب من كل مرض وعلّة. فكان الناس يأتون إليه بأعداد كبيرة ويطلبون الشفاء للنفس وللجسد.
وبعد موته وقيامته سلّم يسوع هذه الرسالة المثلثة، وسلطانه الإلهي في الكنيسة، للرسل والتلاميذ ولكل من يدعونهم من بعدهم ليتمموها على مدى الأجيال. طمأنهم وقال لهم: إذا كانوا قد اضطهدوني أنا الربّ والمعلّم، فسيضطهونكم أيضًا من بعدي. لكن لا تخافوا أنا معكم إلى منتهى الدهر.
وهكذا على مدى الاجيال منذ 2000 سنة لبّى كثيرون دعوة يسوع في الكنيسة وكرّسوا حياتهم بمواهب متعددة لخدمة الرسالة الخلاصية؛ ومنهم شفيعنا الذي نحتفل بعيده اليوم، إبن حردين، إبن منطقتنا وأرضنا المقدسة. فبدأ بتلبية الدعوة في عائلته، لأن الدعوة تبدأ في العائلة، والله يبارك العائلة ويدعو منها أشخاصًا ليقوموا بالرسالة كل واحد بحسب الموهبة المعطاة له ومنهم نعمة الله. فكرّس حياته هنا في دير كفيفان للصلاة والخدمة، ليكون قدوة ومثالاً في الحياة الديرية المشتركة وفي كل الأعمال التي كانت تسلّمه إياها الرهبانية بتواضع وصمت وصلاة وسجود أمام القربان لساعات طويلة. ثم أدرك أن يسوع يدعوه أيضًا للتعليم؛ فكان معلّمًا للمتبدئين وكان منهم القديس شربل، ثم مدّبرًا للرهبانية. فراح يعلّم ويبشّر بملكوت الله ويخدم الرهبان والرهبانية بمثل حياته. وأعطاه الله أن يشفي المرضى روحًا وجسدًا، قبل موته وبعده.
وإذا عدنا إلى المرحلة التاريخية التي عاش فيها نعمة الله وتقدّس، نلاحظ أن يسوع دعاه مع شربل ورفقا إلى القداسة، بينما كان شعبنا يعاني في ظروف كارثية من الاضطهاد والذبح والقتل، وبخاصة بين سنتي 1840-1860. اختارهم من بين الشعب ليتقدّسوا بالصلاة والحياة الديرية والنسك.
نحن اليوم نعيش في ظروف مماثلة. نعيش القهر والفقر والإذلال منذ 46 سنة، منذ بداية الحرب في لبنان، سنة 1975؛ ونحمل الصليب مع يسوع. وقد طالت درب جلجلتنا وفاقت الأربعة عشر مرحلة ونحن ننتظر الموت والقيامة. لكننا لم ولن نيأس، لأننا نعرف أن يسوع يدعونا إلى القداسة بحمل الصليب معه، ويدعو كل واحد وواحدة منا بالموهبة التي أعطيت له وبالخدمة المطلوبة منه في العائلة والمجتمع.
إنه يدعونا إلى أن نتخطّى عقدة الخوف ونسير معه بثقة وبإيمان ورجاء ويردّد على مسامعنا: لا تخافوا ! أنا معكم إلى منتهى الدهر! ومن يصبر إلى المنتهى يخلص.
كنيستنا هي كنيسة المسيح، وهي السفينة التي تتقاذفها أمواج هذا العالم؛ وستصل إلى ميناء الأمان لأن قبطانها هو يسوع. ومهما باعونا كلامًا وخطابات رنّانة ووعودًا فارغة، فنحن نؤمن أن يسوع المسيح هو المخلّص الوحيد.
هكذا عاش قبلنا قديسونا وآباؤنا وأمهاتنا وأجدادنا في عائلات باركها الله. وهكذا ننوي أن نعيش ونشهد اليوم. سنبقى ثابتين في إيماننا ورجائنا ومتمسّكين بأرضنا وبالقيم التي تربّينا عليها في وجه كل التحديات. ونحن متأكدون أننا بعد حمل الصليب والسير في درب الجلجلة نحن مقبلون على الموت، نعم الموت عن هذا العالم وملذاته ومغرياته، لنستحق القيامة مع الرب يسوع. والقيامة قريبة. وعلينا أن نبقى واقفين صامدين إلى اليوم الذي يريده الله فنحتفل معًا بولادة العالم الجديد.
وبالانتظار، يطلب منا الرب يسوع، وتطلب منا الكنيسة، ويطلب منا قداسة البابا فرنسيس أن نكون متضامنين وأن نسير معًا، ونحن في مرحلة تحضيرية لسينودس الأساقفة الذي سيعقد في روما في تشرين الأول 2023، نحو كنيسة تصغي إلى صوت الله وإلى صوت شعب الله، وتخرج إلى العالم حيث أبناؤها القريبون والبعيدون والمهمّشون والرافضون وتجمعهم في حظيرة الخراف الناطقة. فتميّز إرادة الله فيها للخلاص وتسير بهدي الروح القدس.
كنيستنا هي كنيسة تتقدس، بشفاعة قديسيها وشهودها وشهدائها، في الصلاة والنسك والتواضع والخدمة والمحبة لجميع الناس.
وهي كنيسة نسير فيها معًا باللقاء والإصغاء والتمييز حتى الخروج من النفق المظلم حيث تشرق علينا شمسُ القيامة وفجرُ عالم جديد. هذا هو رجاءنا بالمسيح يسوع.