المطران بولس آميل سعاده: زرع في ربع قرن خدمةً ومحبةً وعمرانًا
المطران منير خيرالله *
رحل سيادة المطران بولس آميل سعاده، ابن إهدن- زغرتا وحامل إرثها في الإيمان والعنفوان والكرامة، ظهر الأربعاء في 21 أيلول 2022، تاركًا لنا شهادة حياة أمضاها في الخدمة الكنسية والإنجاز الروحي والعمراني. ولا عجب، فهو ابن عائلة كهنوتية عريقة – هو ابن الخوري بولس سعاده وحفيد الخوري سعاده سعاده خادمي رعية إهدن زغرتا لسنوات. وُلد فيها في 9 تموز 1933، وفيها تربّى على محبة الله والكنيسة والوطن وعلى الفضائل الإلهية.
وبعد دروسه الابتدائية في مدرسة مار يوسف عينطوره، والتكميلية في معهد الآباء الكرمليين في طرابلس، دخل الإكليريكية البطريركية المارونية في مار عبدا هرهريا سنة 1952 حيث أنهى دروسه الثانوية واللاهوتية.
اقتبل سرّ الكهنوت في 12 نيسان 1958 بوضع يد المطران يوسف الخوري النائب البطريركي العام، وانطلق في مسيرة التضحية والتفاني وبذل الذات مع يسوع المسيح في خدمة كهنوتية أولاً، ثم في خدمة أسقفية جعلت منه واحدًا من أحبار كنيستنا الكبار.
أولاً، في الخدمة الكهنوتية
في 12 تموز 1959 عيّنه البطريرك بولس المعوشي خادمًا لرعية إهدن- زغرتا خلفًا لوالده الخوري بولس. فراح يجمع أهل بلدته في ظروف اجتماعية وسياسية معقّدة. وبالتعاون مع الخوري هيكتور الدويهي راح يبشّر بالمحبة والإلفة والتضامن والتعالي عن الحساسيات الشخصية والعائلية. فأسّسا معًا تجمّع الشباب الزغرتاوي وأطلقا نهضة ثقافية واجتماعية تهيّء لنخبة تضع المواطنة قبل الانتماء العائلي والطائفي.
عملا معًا على تشجيع الحياة الجماعية بين الكهنة، وأسّسا بيت الكهنة الذي اعتُبر أول تجربة في الكنيسة المارونية (1962).
والتزما معًا في تجمّع كهنة الشمال، ومن بينهم المطارنة في ما بعد يوسف بشاره ويوسف ضرغام وفرنسيس البيسري، الذين كانوا يجتمعون أسبوعيًا للصلاة ولتحضير العظات والنشاطات الرعوية والتخطيط لمستقبل كنيستهم على أبواب المجمع الفاتيكاني الثاني.
انضم الخوري آميل إلى الرابطة الكهنوتية (1972) التي كانت تجمع نخبة من الكهنة بهدف تعزيز روح الأخوّة والروابط الروحية والتنشئة الثقافية.
ثم أسس تجمّع الإكليروس الإهدني- الزغرتاوي (1972)، وشجع الرهبانيات الرجالية والنسائية على المجيء إلى زغرتا وبناء المؤسسات التربوية والصحية والاجتماعية.
ورافق الأخويات والحركات الكنسية والكشفية وشجعها على الانخراط في الحياة الرعائية. كما شجع الصليب الأحمر على متابعة رسالته الإنسانية.
أما على المستوى الإجتماعي والإنمائي والعمراني فقد أظهر قدرة مميزة. فعمل على تأسيس مركز صحي- إجتماعي (1964). ومع بداية الحرب في لبنان، أسس مستوصف ومستشفى مار يوحنا (1975)، ثم مستشفى سيدة زغرتا (1979) تجاوبًا مع حاجة ملحّة.
وترأس إقليم زغرتا في رابطة كاريتاس لبنان منذ 1976 ليكون بالقرب من المحتاجين إلى تعاطف ومحبة خصوصاً المتضرّرين من الحرب وويلاتها.
ولم ينسَ أن يشجّع الزغرتاويين، المقيمين والمنتشرين، على تشييد الكنائس والمزارات؛ وهي لا تزال حتى اليوم تشهد كبيوت للعبادة مفتوحة دومًا يؤمّها المؤمنون للصلاة.
وتقديرًا لجهوده وتضحياته منحه البطريرك أنطونيوس خريش رتبة الخورأسقفية (1982).
ثانيًا، في الخدمة الأسقفية
انتخب مطرانًا نائبًا بطريركيًا على نيابة بلاد البترون وإهدن- زغرتا في 2 أيار 1986، ونال الرسامة الأسقفية في 12 تموز 1986.
فوضع لأسقفيته برنامجًا مثلث الأبعاد وَعَدَ فيه:
أنه سيسير أولاً على « خطى البطريرك نصرالله صفير وسيكون قيروانيًا آخر إلى جانبه » آخذًا على ذاته « العمل على تعميق معنى الصليب في حياتنا، وذلك عن طريق نهضة روحية ونشر ثقافة دينية وترسيخ مبادئ أخلاقية ورأب صدع حياة اجتماعية وإرساء ركائز وطنية ثابتة ».
وأنه سيسير ثانيًا على خطى البطاركة والآباء القديسين « من البطريرك الأول مار يوحنا مارون إلى البطريرك العظيم ابن حلتا الياس الحويك، بطريرك جميع اللبنانيين، وبينهما سلسلة لم تنقطع من القديسين والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين ».
وأنه سيبذل ذاته ثالثًا في خدمة أبناء المنطقة إكليروسًا وعلمانيين » جاعلاً « أولى اهتماماته حال الكهنة الروحية والعلمية والمادية »، وقائلاً للعلمانيين إنه « يحمل في قلبه قضية كل واحد منهم ».
تسلّم رعاية النيابة البطريركية في بلاد البترون يوم كانت ممزّقة مقسّمة مقطّعة الأوصال، لا تواصل بين جردها وساحلها، ومعظم أهلها مهجّرون ومشتّتون.
وفي اليوم التالي، يوم دخوله دير مار يوحنا مارون في كفرحي قال إنه استوقفه « تراث حضاري وروحي وثقافي باهر، وانتابته رهبة كبرى لدى سماعه في الأعماق صدى أصوات بطاركة وأساقفة عظام هم مَعلَمٌ عظيم ومميّز من حضارة شعب يعي أنه حاملُ رسالةٍ وقيمٍ في لبنان وفي الشرق وفي العالم». وشعر « أن كل حجر من حجارة هذا الصرح هو حكاية بطولة وصمود وإيمان بالله وبالإنسان »، إذ آلمته « أوضاع الدير وما آلت إليه أبنيتُه الناطقة بما قام به الأجداد الكبار ».
فشمّر عن ساعده وراح يُرمّم الحجر ويعتني بالبشر تنفيذًا لبرنامج أسقفيته. ودعاني من الإكليريكية البطريركية المارونية في غزير حيث كنت أعتني بتنشئة كهنة الغد إلى أن أعمل معه وإلى جانبه. وبدأنا مشوارنا البتروني الذي دام أكثر من خمس وعشرين سنة؛ واستمرّ بعد تسلّمي رعاية الأبرشية حتى اليوم ويبقى مرافقاً لي وساهراً على إكمال مسيرة التجدّد تحت عيني الرب وبشفاعة مار مارون ومار يوحنا مارون وقديسي أبرشيتنا.
بدأ المشوار بأن وضع هو قلبه الإهدني الكبير وتراثه الماروني وخبرته الراعوية والعمرانية، ووضعتُ أنا قلبي ومحبتي وفكري اللاهوتي والرعوي وثقافتي المارونية التي تلقّيتها من معلّمي، الماروني العلاّمة الكبير، الخوري يواكيم مبارك.
طوال هذه الفترة، عرفته أولاً المطران البنّاء الذي عمّم العمران في كل أبرشيته بدءًا بدير مار يوحنا مارون وانتهاءً بمشاريع الرعايا من كنائس وقاعات وخدمات إجتماعية.
رمّم الدير البطريركي الأول وأعاد إليه رونقه، وحضر البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في 6 آب 1996 ليبارك الأبنية المجددة. ثم اعتنى بالأرزاق وزرع البذور والأشجار والكرمة واستثمرها بحكمة ودراية.
ونجح في استعادة هامة مار مارون، أول سنة 2000، من فولينيو في إيطاليا إلى دير مار يوحنا مارون من حيث أخذت سنة 1130. وأوصى بأن يُدفن بقربها وإلى جانب البطريرك الأول مار يوحنا مارون وأساقفة عظام في تربة كفرحي.
وعرفته ثانيًا الراعي الصالح والأب الساهر على رعيته والمدافع عنها ضد الذئاب الخاطفة. فراح يعتني بالبشر متنقلاً في رعايا الأبرشية مؤاسيًا الناس ومشجعًا إياهم على الثبات بالإيمان والتمسّك بالأرض. وأقام علاقات الموّدة والتواصل الدائم مع نواب المنطقة والرسميين فيها.
بدأ بتعزير أوضاع الكهنة ليوفّر لهم عيشًا كريمًا، فأنشأ المجلس الكهنوتي وصندوق تعاضد الكهنة ووفّر عناية خاصة لكبار السنّ.
منح سرّ الكهنوت لثلاثين كاهنًا، منهم ثمانية عشر من أبرشية البترون. وأرسل البعض منهم للتخصص خارج لبنان ولخدمة رعوية في أبرشية سان إتيان الفرنسية التي أقام معها روابط توأمة روحية وكنسية منذ 1998.
راح يعمل على تفعيل لجان الأوقاف في الرعايا، وتعزيز الأخويات والحركات الرسولية وإنشاء اللجان والمجالس، ومن أهمها: المجلس الراعوي الأبرشي الذي جمع فيه نخبة المثقفين من أبناء المنطقة، ولجنة الدعوات، ولجنة الشبيبة، ورابطة الجامعيين، ولجنة العيلة والفريق الرسولي. وأنشأ جماعة بيت الصلاة – أبانا في تولا برئاسة الأم بريجيت ماي الفرنسية التي تبنّت روحانية كنيستنا المارونية وميزة أبرشيتنا في الدعوة إلى القداسة.
وشجع على نشر كلمة الله وتعاليم المسيح في الانجيل وتعاليم الكنيسة بإطلاق مجلة النشرة الراعوية الأبرشية والنشرات في الرعايا.
ولتعميق معنى الصليب، شجّع على زرع الصليب على كل تلال المنطقة وبارك مشروع الصليب الكبير في اجدبرا ليبقى الصليب مرفوعًا علامة للانتصار على الشرّ وعلى الموت.
وعرفته ثالثًا الصوت الماروني الصارخ، في الأبرشية وفي مجلس الأساقفة وفي كل المناسبات الإجتماعية والوطنية، ينادي بالعودة إلى الأصالة وبالتمسّك بإرث الآباء والأجداد وبالقيم والأخلاق المسيحية واللبنانية وبتلبية دعوة الله إلى القداسة، وبخاصة في أبرشية البترون أبرشية القديسين.
بادر إلى تقديم دعاوى تطويب وتقديس رفقا ونعمة الله والأخ اسطفان نعمه والبطريرك اسطفان الدويهي والبطريرك الياس الحويك.
وترأس سنة 2010 لجنة الاحتفال بيوبيل 1600 سنة على وفاة مار مارون.
في 6 تشرين الثاني 1999، استقلّت أبرشية البترون وأصبح مطرانًا أصيلاً عليها، فجدّد الوعد بمتابعة مسيرة الإنماء الروحي والكنسي والثقافي والاجتماعي في الأبرشية لبناء حضارة العدالة والمحبة والقيم الأدبية.
ونذكر من أهم إنجازاته أنه أصدر سلسلة تاريخ أبرشية البترون المارونية في أربعة أجزاء بالتعاون مع الدكتور جان نخول والدكتور ميشال ابي فاضل، وافتتح المتحف الذي جمع فيه المخطوطات والكتب القديمة القيّمة.
في الخلاصة أشهد أن المطران سعاده كان بالنسبة إليّ، كما بالنسبة إلى إخوتي الكهنة وإلى جميع أبناء وبنات أبرشية البترون، بمثابة الأب الحنون والراعي الساهر والموجّه الحكيم والقائد الحازم، إذ رافقنا بحنان وعطف وحزم.
وتبقى خدمتُه لأبرشية البترون محفورةً في قلب كل بترونيّ، وما زرعه في ربع قرن يثمر اليوم خدمةً ومحبة والتزامًا كنسيًا واجتماعيًا وثقافيًا ووطنيًا.
أيها الراعي الصالح والأب الحنون والحبر المفضال،
نجدّد الوعد في وداعك، وأنت تنظر إلينا من السماء وتسهر علينا كما كنت في حضورك بيننا، بأن نبقى لك أوفياء مخلصين، وبأن نحافظ على منطقتنا بلاد صلاة وبركة وقداسة تعطّرها أضرحة القديسين رفقا ونعمة الله والطوباوي الأخ اسطفان والمكرّم البطريرك الياس الحويك، وتكلّلها هامة مار مارون التي أردت أن تدفن بقربها لتكون ذخيرة للأجيال الطالعة.
· كلمة المطران منير خيرالله في وداع المثلث الرحمة المطران بولس آميل سعاده كفرحي، في 24/9/2022