عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار يوحنا مارون، 2/3/2023
في المطرانية كفرحي، (مع جمعية « موارنة من أجل لبنان »)
« أنتم ملحُ الأرض، أنتم نور العالم » (متى 5/13)
نعيّد معًا اليوم، في عودة إلى جذورنا الروحانية والتاريخية والكنسية، مار يوحنا مارون البطريرك الأول ومؤسس الكنيسة البطريركية المارونية ومطلق مسيرتها من هنا، من كفرحي، في رسالة النسك والحرية والانفتاج طاعةً لدعوة الرب يسوع المسيح إلى أن يكون أبناؤها « ملحَ الأرض ونور العالم » (متى 5/13).
لقد دخلنا منذ بضعة أيام زمن الصوم الكبير الذي يدعونا فيه يسوع المسيح « إلى أن نصعد إلى جبلٍ عالٍ لكي نعيش خبرة زهدٍ خاصة، فنتغلّب على نقص إيماننا وعلى مقاومتنا لاتّباعه في مسيرة الصليب »، كما يقول قداسة البابا فرنسيس في رسالة الصوم.
هذا ما فعله أبونا الروحي مار مارون منذ أكثر من ألف وستماية سنة، إذ اختار أن يلبّي دعوة المسيح فزهد في العالم وتسلّق قمم جبال قورش، قرب أنطاكيه الجريحة اليوم جرّاء الزلزال المدمّر، وراح يعيش حياة نسكية يقضي فيها أوقاته بالصلاة والصوم والتقشف والوقوف المستمرّ، ويجهد في الأعمال اليدوية في الأرض التي أحبّها وتعلّق بها.
وراح تلاميذه من بعده يضاهونه في عيش الروحانية النسكية التي وضع أسسها. ومنهم من بقوا في سوريا وجمعوا الناس حولهم وبنوا الأديار، وكان أكبرها دير مار مارون على ضفاف العاصي، ومنهم من قصدوا جبال لبنان سالكين مجرى نهر العاصي، وهو النهر الوحيد العاصي على الطبيعة، بعكس مساره، واستوطنوا جرود جبيل والبترون وجبّة بشري، وحملوا اسم « شعب مارون » وتكّنَّوا « ببيت مارون »؛ كل ذلك من أجل حمل الرسالة المسيحية وتبشير الفينيقيين ودعوتهم إلى الإيمان بالإله الواحد وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار.
اختاروا المجيء إلى جبل لبنان « لأنه الجبل الذي يسكن فيه أولياء الله تلبيةً لدعوةٍ منه »، كما يقول البطريرك اسطفان الدويهي؛ وقد « أتوه نساكًا ومرسَلين لا لاجئين وفاتحين »، كما يقول الأب يواكيم مبارك.
إلى أن أتى يوحنا مارون في أواخر القرن السابع وأسس الكنيسة البطريركية على إسم مارون، ونظّمها كنسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وأمّن لها استقلالاً ذاتيًا في قلب الكنيسة الانطاكية وضمن نطاق الدولة العربية الإسلامية. ما سهّل للموارنة أن يبنوا عالمهم الخاص في جبل لبنان ولكن من دون أن يتقوقعوا على ذاتهم أو أن يتعدّوا على الآخرين. واتّبعوا بعد يوحنا مارون مقوّمات روحانيتهم النسكية وعاشوا في العراء على قمم الجبال أو في قعر الوديان زاهدين في العالم وملذاته وإغراءاته ومتحمّلين على مرّ الأجيال أشق العذابات والاضطهادات في سبيل الحفاظ على ثوابتهم الأربعة الغالية، أي:
1- الحرية في عيش إيمانهم بالله والتعبير عن آرائهم،
2- التعلّق بأرضهم المقدسة التي سقوها من عرق جبينهم،
3- الارتباط بشخص البطريرك، رأسهم الواحد وأبيهم وراعيهم ومرجعهم ورمز وحدتهم وضامنها،
4- حبّ الثقافة والعلم، ما سمح لهم بالانفتاح على الشرق والغرب.
لقد ارتضى الموارنة، في تبنّيهم الحياة النسكية بعد مار مارون ومار يوحنا مارون، أن يخوضوا المغامرة حتى النهاية مع المسيح، الذي يدعوهم باستمرار، كما دعا بطرس ويعقوب ويوحنا، للصعود إلى جبل التجلّي ليذوقوا طعم الملكوت ثم ينزلوا إلى العالم ليقبلوا التضحية بالذات تشبّهًا بالمسيح على الصليب، لأن روحانيتهم النسكية هي روحانية الصليب.
وفهموا أن التضحية بالحياة ليست خسارةً لها بل هي على العكس ربح جديد لها بقدر التضحية بها لأنها إلى القيامة صائرة.
وكانوا يقصدون « الارتفاع حيث يشخص نظرهم إلى ذلك الجبل الذي أراده الله لهم موطنًا، كما يقول الأب ميشال الحايك، كي يكونوا في علاقة روحية عمودية معه. فحملوا صليبهم مع المسيح وراحوا يرتفعون به صعودًا حتى التضحية بالذات، حتى الارتقاء إلى الله ».
يا أبناء مارون ومار يوحنا مارون،
نحن مدعوون اليوم إلى الزهد في العالم فيما نحن نعيش في العالم ونواجه تحدياته، إلى الارتقاء إلى الله وإلى جبل الله حيث يسكن أولياؤه قديسونا ونساكنا، وإلى قبول التضحية في سبيل خدمة الإنسان والخير العام.
نحن مدعوون إلى فعل توبة صادق نطلب فيه المغفرة من الله ومن بعضنا البعض على كل الانتهاكات التي اقترفناها بحق الله والقريب وبحق وطننا لبنان.
نحن مدعوون أولاً وآخرًا إلى القداسة، لا إلى الرئاسة !
في تاريخنا لم نكن يومًا طالبي رئاسات، بل مشاريع قداسة. فالرئاسات عابرة أما القداسة فهي حالُ مَنْ يتّحد بالله، الحبّ المطلق والأبدي.
نحن نحتاج اليوم، أكثر ما نحتاج، إلى قديسين، لا إلى رؤساء وسلاطين !
أيها السياسيون، أبناء مارون ولبنانيين، دعوتي إليكم اليوم أن تتكوكبوا حول شخص البطريرك وتجدوا في بكركي مساحة مفتوحة للحوار الصادق والصريح وغير المشروط، فتتفّقوا على مشروع لبنان الغد، دولةٍ حديثة، دولةِ المواطنة التي تساوي اللبنانيين في ولائهم للوطن قبل ولائهم للطائفة، كما أرادها البطريرك الياس الحويك، وطن العيش الواحد المشترك في الحرية والكرامة واحترام التعددية، كما قال عنه القديس البابا يوحنا بولس الثاني.
أعطنا يارب، في عيد مار يوحنا مارون وفي مسيرة الصوم، أن نعود إليك تائبين، وأن نبقى على إيماننا ثابتين، وأن نواجه تحديات الزمن برجاء مبين، فنستحق منك مكافأة العبيد الصالحين، ونُحصى مع أوليائك القديسين. آمين.