في استقبال غبطة البطريرك الراعي
في احتفال تكريس كنيسة مار ميخائيل في ضهر ابي ياغي، الأحد 9 تموز 2023
صاحب الغبطة والنيافة أبانا البطريرك الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي
بطريرك انطاكية وسائر المشرق الكلّي الطوبى
تشرّفوننا اليوم في أبرشية البترون للاحتفال بتكريس كنيسة مار ميخائيل الجديدة في رعية ضهر ابي ياغي الحبيبة. ويفرح باستقبالكم جميع أبناء الرعية، ومعظمهم يتحدر من عائلة ابي صالح- الخوري.
وضهر ابي ياغي هي بلدة بترونية صغيرة بحجمها الجغرافي، ولكنها كبيرة بمن أعطت للكنيسة وللمجتمع وللوطن من كهنة ومثقفين وأطباء ومحامين ومهندسين ورجال أعمال وموظفين كبار في مؤسسات الدولة أو في القطاع الخاص. حتى صارت مضرب مثل في منطقة البترون وفي لبنان.
ويعود الفضل في ذلك إلى كهنة أدخلوا إلى عائلاتهم حبّ العلم والمعرفة والثقافة والالتزام بالإيمان بالله وبالقيم المسيحية والإنسانية، وهم الخوري مخايل الجدّ الأول، والخوري مخايل الجدّ الثاني، والخوري باسيل العمّ الذي سعى أيضًا إلى بناء كنيسة مار ميخائيل الصغيرة القديمة.
وتيمُّنًا بهم ووفاء لتضحياتهم وشهادتهم، قام الأبناء والأحفاد، وكانوا قد توزعوا في لبنان وفي بلدان الشرق كما في بلدان الانتشار، بالتخطيط لبناء كنيسة جديدة تعبّر عن طموحاتهم وتحقّق تطلعاتهم المستقبلية.
فعقدوا العزم على التنفيذ، وكان منهم من قدّم الأرض ومن تبرّع وأسهم.
وبدأت ورشة البناء. وبعد توقّف قسري بسبب الأزمات المتراكمة والمتعددة التي تفاقمت في لبنان في السنوات الأخيرة، انبرى المهندس جهاد ابي صالح وشحذ الهمم عازمًا على إكمال الكنيسة، بمساعدة المحامي شفيق ابي صالح مختار البلدة ونائب رئيس لجنة الوقف، وأبناء الرعية. وانتهى العمل بالسرعة القصوى وجاءت الكنيسة تحفة من تحف الفن الحديث ومجهّزة بكامل المتطلبات لتستقبلكم اليوم، يا صاحب الغبطة، بالحلّة اللائقة.
أبانا صاحب الغبطة،
بترؤّسكم هذا الاحتفال تكرّسون الكنيسة وتباركون أهل الرعية التي رفع أبناؤها الصليب على قبّتها لكي يكون نورًا مشعًّا في ظلمات لبنان اليوم ويدعو أهالي بلاد جبيل والبترون إلى الثبات في الإيمان والرجاء والمحبة.
نشكر الله على كل ما تقومون به وتبذلونه من الجهود في حمل عصا الرعاية على خطى البطريرك الأول مار يوحنا مارون وأسلافكم البطاركة العظام، لا سيما المكرّم البطريرك الياس الحويك.
ونشكركم، باسم أبناء رعية ضهر ابي ياغي وأبرشية البترون، على حضوركم ومباركتكم لنا. ونطلب من الله أن يؤتيكم الصحة والحكمة والقدرة على قيادة كنيسة المسيح على إسم مار مارون إلى ميناء الأمان، بشفاعة العذراء مريم سيدة لبنان وجميع قديسينا.
عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي
تكريس كنيسة مار ميخائيل
ضهر أبي ياغي – الأحد 9 تمّوز 2023
_____________________________________________
"أنت هو الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (متى 16: 18)
1. يشبّه الربّ يسوع سرّ الكنيسة بمبنى قائم على صخرة. المبنى هو جماعة المؤمنين، والصخرة هي الإيمان "بالمسيح إبن الله الحيّ"، الذي أعلنه سمعان بن يونا، فجعله يسوع صخرة أي بطرس، وهو "إنسان ضعيف وسريع العطب من طبعه، ولكنّه حوّله لقوّة إيمانه إلى صخرة صلدة، مميّزة بعدم الإنكسار بشكل دائم وعجيب" (القدّيس البابا بولس السادس: كنيسته-Ecclesiam Suam، 39). جماعة المؤمنين المبنيّة على صخرة الإيمان بالمسيح هي جماعة منظّمة بشكل قانونيّ فيها سلطان الحلّ والربط أي سلطة الولاية بكلّ أبعادها. وقد سلّمها الربّ لبطرس بقوله: "ولك أعطي مفاتيح ملكوت السماوات" (متى 16: 19). هذا الملكوت هو حياة الإتّحاد بالله، الواحد والثالوث. فيبدأ في كنيسة الأرض أي جماعة المؤمنين، المنظّمة تراتبيًّا، ويكتمل في كنيسة السماء الممجّدة.
2. يسعدنا مع سيادة أخينا المطران منير خيرالله راعي الأبرشيّة، وصاحبي السيادة المطرانين جوزف نفّاع وأنطوان عوكر، والآباء المشاركين وجمهور الحاضرين إنّ نكرّس كنيسة مار ميخائيل الجديدة في بلدة ضهر أبي ياغي العزيزة. فأوجّه تحيّة شكر لمختار البلدة عزيزنا المحامي شفيق ضوميط أبي صالح على تسليمي مختصر مراحل بناء الكنيسة الثلاث. فنحيّي آل أبي صالح الكرام ومن ينتسب إليهم، والمهندس نوهرا جوزف أبي رزق الذي وضع الخرائط الأساسيّة والتنفيذيّة من دون مقابل، ووافق عليها راعي الأبرشيّة آنذاك المثلّث الرحمة المطران بولس-إميل سعادة، والمهندس جهاد إدمون أبي صالح الذي أخذ على عاتقه ونفقته الجزء الأكبر الباقي إبتداء من سنة 2016، من بعد أن بدأ العمل الأوّلي ما بين سنة 2008 و 2010 بتبرّعات العديدين من أبناء ضهر أبي ياغي.
3. إنّنا نقدّم هذه الذبيحة الإلهيّة على نيّة جميع الذين لهم تعب وإحسان في بناء هذه الكنيسة وقاعتها الرعائيّة ومستلزماتها، ونذكر جميع أبناء ضهر أبي ياغي وسكّانها، سائلين الله بشفاعة الملاك مخائيل أن يفيض نعمه وبركاته على الأحياء كبارًا وصغارًا، ويريح في الملكوت السماويّ موتاهم.
4. فيما نكرّس كنيستكم ومذبحها على إسم الملاك ميخائيل، لا بدّ من التذكير أنّ "الكنيسة الحجريّة" التي نكرّسها هي صورة عن "الكنيسة البشريّة" التي هي أنتم. فهي مبنيّة على إيمانكم بالمسيح مثل إيمان بطرس! وأنتم حجارتها الحيّة! وأنتم الهيكل الذي يسكنه الله الواحد والثالوث. ففيما نكرّس هذه الكنيسة الحجريّة بالميرون المقدّس، إفتحوا قلوبكم لقبول هذا التكريس مجدّدين تكريسكم الأوّل بالمعموديّة والميرون.
كنيستكم الرعائيّة هذه هي مكان إيمانكم: تغذّونه من كلام الله وتعليم الكنيسة، وتعلنونه ثقافة وحضارة، وتحتفلون به ليتورجيًّا، وتعيشونه بأعمالكم وأقوالكم على القاعدة الأخلاقيّة التي تميّز بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل، وتنظمونه وفق شرائع الكنيسة.
5. الإيمان بالمسيح إيمان الكنيسة أيضًا. أساس الإيمان بالكنيسة هو الإيمان بالمسيح. هكذا نفهم الرباط بين إيمان سمعان وجعله صخرة (بطرس) يبني عليها المسيح كنيسته: "أنت هو الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (متى 16: 18).
وكأنّ المسيح يقول لبطرس: "لأنّك تؤمن بي، أجعلك صخرة أبني عليها كنيستي"، وبكلام آخر "لأنّك تؤمن بكنيستي، أجعلك صخرة وأعطيك مفاتيح الملكوت للحلّ والربط". الإنجيل لا يلغي السلطة، بل يؤسّسها ويثبّتها، ويضعها لخدمة خير الآخرين، لا لأنّها تتحدّر من الجماعة، وكأنّها خادمة لها، بل لأنّها تتحدّر من علُ لتسوس وتحكم باسم المسيح، وهي وليدة تدخّل وضعي من إرادة الله. في الواقع، أراد الربّ يسوع أن يكون تعليمه، لا خاضعًا للتفسير الشخصيّ، بل مسلّمًا إلى سلطة موصوفة: "إذهبوا وتلمذوا، واكرزوا بالإنجيل، ونادوا بالتوبة لمغفرة الخطايا. فكما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضًا" (راجع متى 28: 16-20؛ مر 16: 15؛ لو 24: 45-48؛ يو 20: 21-23). في ضوء كلّ هذا لا يوجد أيّ مبرّر للموقف المناقض لهيكليّة الكنيسة التراتبيّة.
6. الكنيسة مؤتمنة من المسيح الربّ على كلام الله، وإعلانه وتعليمه وتفسيره، وعلى الشريعة الأخلاقيّة التي تميّز بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل. وبهذه الصفة لا تستطيع إلتزام الصمت أمام كلّ كا ما يناقض الكلام الإلهيّ وشريعته الأخلاقيّة. لا تصمت عن الظلم والكذب؛ ولا تصمت عن إهمال الخير العام لصالح الخير الخاص؛ ولا تصمت عن هدم المؤسّسات الدستوريّة وعلى رأسها الفراغ المتعمّد في سدّة الرئاسة وعدم إنتخاب رئيس للجمهوريّة؛ ولا تصمت عن إختلاق أوضاع تمسّ كيان المؤسّسات والإدارات، ويسمّونها "ضرورة" يستنبط منها المجلس النيابيّ، وقد أصبح هيئة ناخبة، "تشريع الضرورة"، وحكومة تصريف الأعمال "تعيينات الضرورة" وهي مخالفة للدستور، ونخشى أن يُطعن بدستوريّتها؛ ولا تصمت عن قهر الشعب وإفقاره وإذلاله وجعله في حالة استعطاء، وهو الأبيّ بكرامته؛ ولا تصمت عن كلّ سلاح غير شرعيّ ومتفلّت الإستعمال وغير خاضع للدولة ولنصّ الدستور؛ ولا تصمت عن التعدّي على مشاعات المدن والبلدات والقرى، وعلى أراضي الغير؛ ولا تصمت عن الكثير الآخر الذي يجعل الدولة فاقدة لهيبتها.
7. تعلمون، أيّها الإخوة والأخوات، أن إسم الملاك ميخائيل يعني "من مثل الله؟!" فيا ليت الذين يتصرّفون، وكأنّهم أنصاف آلهة، ويخالفون شريعة الله وكأنّ الله سبحانه غير موجود يفهمون أنّ "لا أحد مثل الله".
فلنصلِّ إلى الله كي يغفر لنا عندما نتعدى على رسومه ولكي يحمينا من رذيلة الكبرياء والتعدّي على شريعته، ويجعل إسم الملاك ميخائيل شعار حياتنا. لله المجد إلى أبد الآبدين، آمين.