عظة المطران منير خيرالله
في قداس البحر، البترون 2/7/2023
« إبتعد إلى العمق، وأرسلوا شباككم للصيد » (لوقا 5/4)
أحبائي أبناء وبنات البترون، والأصدقاء
نلتقي اليوم كعادتنا كل سنة لنحتفل بقداس البحر ونذكر فيه بحّارتنا والغطّاسين أبناء البترون وفاءً لتضحياتهم وشهادتهم وقد خاضوا مغامرة البحر وخاطروا بحياتهم وتحدّوا العواصف.
من شاطئ البترون نُبحر اليوم في سفينة قبطانها يسوع المسيح، كما أبحر معه يومًا سمعان بطرس ورفاقه البحارة من شاطئ بحيرة طبريّا، لنخوض مغامرة صيد البشر إلى الخلاص.
يسوع المسيح القبطان الإلهي يقود السفينة ويدعونا، كما دعا سمعان بطرس، قائلاً: « إبتعدوا إلى العمق وأرسلوا شباككم للصيد ».
إبتعدوا إلى العمق حيث تحلو المغامرة التي كان يجيدها أجدادكم وأباؤكم وابناؤكم، ودفعوا ثمنها غاليًا ليبقوا في ذاكرتنا حافزًا للإيمان والرجاء وعدم الخوف.
إبتعدوا إلى العمق، إلى أبعد من السور الفينيقي الذي حماكم لمئات السنوات، وإلى أبعد من متحف البحر الذي أقمتموه منذ أيام، بالتعاون مع مؤسسة الجيش اللبناني، مَعْلَمًا سياحيًا هامًا.
إبتعدوا إلى العمق ولا تخافوا؛ فإن العذراء مريم سيدة البحر ترافقكم ومار اسطفان شفيعكم وشهيد المحبة والغفران يشجعكم على خوض المغامرة.
إبتعدوا إلى العمق وألقوا شباككم واصطادوا أخوةً لكم في المواطنة والإنسانية إلى الحرية والخلاص.
يا يسوع قبطان السفينة، قال لك سمعان بطرس، وكنت قد سلّمته القيادة: « يا معلّم، لقد تعبنا الليل كلّه ولم نصطدْ شيئًا. ولكن بناءً على كلمتك نلقي الشباك، (لوقا 5/5).
وقال لك الرسل عندما اشتدّت عليهم العواصف في عمق البحر وكادت سفينتهم تغرق: « يا رب نجّنا، ألا ترى أننا نهلك ؟ » (متى 8/25).
أما نحن اليوم فنقول لك:
نريد أن نبحر معك من على متن هذه السفينة، وأن نبتعد إلى العمق ونترك، ولو لفترةٍ، همومنا ومآسينا وانشغالاتنا اليومية وقلقنا على المستقبل والمصير، لنخوض معك مغامرة الحب الذي هو وحده سترة النجاة والخلاص.
ولكن ألا ترى أننا مبحرون في بحر شديد الاضطراب وأننا نكاد نغرق ؟
ألا ترى أن العواصف الشديدة والأمواج تضرب سفينتنا، وتضرب المجتمع والدولة والوطن ؟
ألا ترى أن دولتنا وصلت إلى الإنهيار جرّاء الفشل السياسي والانحطاط الأخلاقي، وأن ضمائر المسؤولين عندنا تجمدّت وأصبحت كالقبور المكلّسة لا روح فيها ولا حياة ؟
لقد تعبنا لسنوات طوال ويئسنا من النضال والمطالبة بحقوقنا في العيش بكرامة وحرية واستقرار وسيادة، ووصلنا إلى أفق مسدود بعد أن سئمنا الانتظار لقيام دولة الحق وحكم القانون.
لكننا لن نستسلم لليأس والإحباط، ولن نستقيل من مسؤولياتنا.
كلنا ثقة يا معلّم، إيها الرب يسوع، أنك مبحر معنا في السفينة، وأنك تعيش معاناتنا، وتتحسّس الأخطار المحدقة بنا، وتفهم القلق الذي يسكن قلوبنا، إنما تزجرنا قائلاً: « ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان ؟ ثقوا، أنا هو لا تخافوا !». نعرف أنك القبطان ولو بدا لنا أنك نائم في مؤخّر السفينة؛ أنت سيد البحر « تأمر الأمواج والعواصف فتطيعك، ويحدث هدوء تام » (متى 8/26-27).
يا أخوتنا وأخواتنا أبناء وبنات البترون ولبنان، وبخاصة الصبايا والشباب منكم،
بالرغم من كل ما تعانون، وبالرغم من العواصف الشديدة والأمواج العاتية التي تضرب سفينتنا كنيسة المسيح، وتضرب المجتمع والدولة والوطن، إني أدعوكم إلى الاطمئنان وإلى تخطّي عقدة الخوف.
تعالوا نخوض مغامرة الثورة على الذات وعلى الواقع المؤلم مع الرب يسوع المسيح الذي هو وحده خلاصُنا وضمانتُنا الوحيدة ويقول لنا: « ستعانون الشدة والاضطهاد في العالم، لكن ثقوا، لا تخافوا، أنا غلبت العالم» (يوحنا 16/33).
تعالوا نتحرّر من مصالحنا الشخصية الضيّقة ونضحّي بها في سبيل الخير العام.
تعالوا نبحر ونغامر ونبتعد إلى العمق، لأننا في العمق نستعيد جرأتنا على المغامرة وعلى مواجهة أبناء الظلمة والفساد في هذا الزمن الرديء.
استعيدوا ثقتكم بأنفسكم وبقدراتكم على رفض الواقع الشاذ القائم على الفساد وفقدان القيم والأخلاق، وعلى بناء مستقبل لكم ولأولادكم في دولة حديثة، دولة المواطنة والقانون، تعيشون فيها بحرية وكرامة.
تعالوا نشبك الأيدي ونعمل معًا على تحقيق ملكوت الله في أرضنا ووطننا ونشهد للمحبة والمغفرة والمصالحة.
وعندما يعود الهدوء التام ويعود لبنان وطنًا رسالة، تكونون أنتم، يا صبايانا وشبابنا، أبطال العهد الجديد، وأنبياء الرجاء، ورسل المحبة والمصالحة والسلام !