عظة المطران منير خيرالله
في قداس ليلة عيد مار نعمة الله الحرديني،
الجمعة 13/12/2013، في دير مار قبريانوس ويوستينا- كفيفان
أخي صاحب السيادة المطران بولس آميل سعاده،
حضرة الأب الرئيس، حضرة الأب المعلّم،
إخوتي الكهنة والرهبان، أخواتي الراهبات،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات أبرشية البترون والزوار الكرام.
نجتمع معاً الليلة لنحتفل بعيد أحد قديسينا، مار نعمة الله الحرديني، وهو معلَمٌ من معالم القداسة في ارضنا وفي كنيستنا وأبرشيتنا، ومعلّم فيها.
عرف القديس نعمة الله كيف يلبّي دعوة الرب يسوع، كما لبّاها الرسل والتلاميذ، فترك كل شيء وتبعه. وراح يطلب أولاً ملكوت الله وبرّه ويجهد في أن تكون كلمة الله هي الأساس في حياته. فيسمعها ويعمل بها كل يوم.
دخل مدرسة القداسة التي نما فيها آباؤنا القديسون من بطاركة وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وآباء وأمهات الذين اتخذوا لهم تعاليم المسيح في الإنجيل وعناصر الروحانية النسكية التي وضعها أبونا القديس مارون مرجعاً ودستوراً.
نمت دعوة القديس نعمة الله، كما دعوةُ أخيه الحبيس أليشاع، أولاً في عائلته وبلدته حردين. فمسيرة القداسة تبدأ في البيت، في العائلة التي هي « الكنيسة الصغرى، ومدرسة الحبّ، والمدرسة الطبيعية للفضائل الإلهية والقيم الأخلاقية، حيث يتربّى الأولاد منذ الصغر على حضور الله والثقة برحمته الإلهية، وهي الموقع الأول للشهادة المسيحية والرسولية، وفي طليعة المواقع التي تنضج فيها الدعوات، والخليّة الأولى للمجتمع».
(الباباوان يوحنا بولس الثاني في رجاء جديد للبنان عدد 46 وبنديكتوس السادس عشر في الكنيسة في الشرق الأوسط عدد 58).
فتربى فيها على القيم المسيحية والإنسانية التي ميّزت شعبنا وعائلاتنا وتعرّف فيها على الله وعلى محبته اللامتناهية للبشر وعلى أبوّته الساهرة عليهم. واكتشف فيها دعوته إذ كان يمارس الصلاة ومشاركة الأسرار ويتنقل بين كنائس حردين ومزاراتها.
ثم دخل شاباً إلى الرهبانية اللبنانية طالباً الكمال في الابتعاد عن العالم والالتزام بالعيشة الديرية المشتركة ونظامها، إذ كان يعتبر أن الحياة في الجماعة هي أصعب من الحياة في المحبسة لأنها استشهاد دائم. وصار معلّماً فيها. ومن أشهر من تتلمذ على يده كان القديس شربل. عاش فيها اتحاده بالله عبر الصلاة المتواصلة وساعات السجود التي كان يقضيها في الكنيسة ويكلّلها بالقداس ذبيحة الشكر الله.
كل ذلك بينما كان شعبه يعاني من أصعب المحن وأقساها في تاريخه إذ اندلعت الفتنة المدبّرة من السلطنة العثمانية بين الموارنة والدروز واستمرت من سنة 1840 حتى 1860. وكان الفراع في الحكم والتناحر السياسي بين القائمقامتين والمتولّين عليهما. ودفع الموارنة ثمنها غالياً بالاستشهاد والتهجير وتدمير بيوتهم وكنائسهم ومؤسساتهم. واعتقدوا أنهم خسروا كل شيء ولن يعودوا إلى أرضهم. لكن إيمانهم القوي وثقتهم الكاملة بالله وشفاعة قديسيهم جعلوهم يتجاوزون المحنة ويتجدّدون في التزامهم الكنسي والوطني ويعملون على بناء لبنان الكيان والدولة على مبادئ الحرية والديمقراطية والإحترام المتبادل في تعدّدية الطوائف والأديان والثقافات والحضارات.
وها نحن اليوم، بعد مائة وخمسين سنة، نواجه التحدّيات ذاتها في الحروب والدمار والتهجير والتناحر السياسي والفراغ في الحكم. فهل نفقد رجاءنا ونستسلم ؟ أم أننا نستعيد ثقتنا بالله وبأنفسنا ونعمل بموجب ما يطلبه منا السيد المسيح حيث وضَعَنا وأرادنا شهوداً له ؟
« إننا نعيش في الجسد، ولكن لا نعيش بمقتضى الجسد. نقضي حياتنا على الأرض ونحن مواطنو السماء»، بحسب ما نقرأ في إحدى رسائل آباء الكنيسة. « إننا في العالم ولسنا من العالم». (يوحنا 17/15).
إننا نجدّد إذاً إيماننا وثقتنا بالذي قال لنا: « تعانون الشدة في العالم، ولكن ثقوا، أنا غلبتُ العالم» (يوحنا 16/33).
فالمسيح يدعونا اليوم وكل يوم إلى أن نقتفي آثار آبائنا القديسين، فنقوم بفعل توبة صادق ونتجدّد في عيش إيماننا بالقيم التي نُقلت إلينا في كنيستنا وفي عائلاتنا.
هذا ما جعل كنيستنا المارونية تعقد مجمعها البطريركي بين 2003 و2006 بهدف التجدّد.
وهذا ما جعلنا نحن في أبرشية البترون، أبرشية القداسة والقديسين، ندعو إلى عقد مجمع أبرشي بهدف أن نتجدّد في الأشخاص والمؤسسات والمجالات الرعوية. وقد افتتحناه في 26 تشرين الأول الفائت وعقدنا العزم على أن نسير معاً، إكليروساً وعلمانيين؛ لأن مسؤوليتنا في الكنيسة مشتركة ولأننا معاً شركاء في عيش الإيمان وحمل بشارة الخلاص.
والتجدّد الذي نصبو إليه لن يتحقق ما لم ينطلق من التجدّد الروحي المرتكز على كلمة الله في الكتاب المقدس وعلى الصلاة وعيش الليتورجيا والأسرار والشهادة للمسيح في الحياة اليومية. هذا يعني أن نقرأ كلمة الله وأن نتأمل فيها وأن نعمل بموجبها.
ونحن في البترون مدعوون بشكل خاص إلى عيش هذا التجدّد الروحي لأننا مؤتمنون على أبرشية مار يوحنا مارون التي تحتضن ذخائر وضرائح الطوباوي الأخ اسطفان نعمه.
إني أدعوكم جميعاً إلى الإصغاء إلى صوت الروح القدس يتكلم في كل واحد منا، وإلى الالتزام في المسيرة المجمعية وفي ورشة التجدّد التي تجعلنا نخدم كنيستنا وبعضنا بعضاً في المحبة، ونشهد لحضور الرب يسوع الدائم بيننا. وإني أطلب أن تكون أديارنا مراكز إشعاع روحي في قلب المسيرة المجمعية حيث يلتقي المؤمنون للصلاة والتنشئة الروحية. ولِمَ لا نعيد فتح معهد التثقيف الديني هنا في دير القديسين في كفيفان ؟
وأن تكون رعايانا واحاتٍ روحية تضجّ فيها الحياة الرسولية حول الكهنة مع الأخويات والشبيبة والأولاد في الحركات المتنوعية المواهب.
فيكون مجمعُنا مناسبةً لفحص الضمير وفعل التوبة والصلاة واتخاذ المقاصد في سبيل التجدّد المطلوب وإعادة بناء ذواتنا وعائلاتنا ورعايانا وأديارنا وكنيستنا ووطننا لبنان « الوطن الرسالة». آمين.