عظة المطران منير خيرالله
في قداس ليلة عيد القديسة رفقا
22 آذار 2014، في دير مار يوسف جربتا
« لأننا إذا شاركناه في آلامه، نشاركهُ في مجده أيضاً» (روما 8/17).
في مثل هذه الليلة، ليلة الثالث والعشرين من آذار سنة 1914، كانت الأخت رفقا تودّع هذه الحياة لتدخل مجد الحياة الأبدية. وبعد أن اقتبلت سرّ مسحة المرضى، قضت ليلتها بالصلاة. وعند بزوغ الفجر، طلبت أن تتناول القربان المقدس قائلة: دعوني آخذ زوادتي معي. فتناولت القربان وهي تؤمن بأنه خبز الحياة. وأنشدت مع أخواتها: قد اتخذتك يا ابن الله زاداً لي في السفر. وسافرت إلى عالم القداسة ودخلت ملكوت الآب السماوي.
وها نحن نجتمع اليوم في الدير الذي عاشت فيه رفقا وتقدست لندخل في احتفالات المئوية الأولى لوفاتها، وقد دخلنا منذ بضعة أشهر في مسيرة المجمع الأبرشي لأبرشيتنا البترونية. ونسمع المسيح يدعونا، كما دعا رفقا، وغيرها الكثيرين والكثيرات، إلى حمل الصليب وإلى مشاركته آلامه لنشاركه في مجده أيضاً: « ومن لا يحمل صليبه ويتبعُني فلن يستحقَني». (متى 10/38).
عاشت بطرسيّة- رفقا حياتها كلها حاملة الصليب مع المسيح.
ففي عمر السبع سنوات فقدت بطرسية والدتها. واضطُّرت بعمر العشر سنوات أن تعمل خادمة لدى عائلة صديقة في دمشق.
وبعد عودتها إلى لبنان، وفي عمر العشرين، قررت أن تدخل الحياة الرهبانية في جمعية المريمات، التي أصبحت في ما بعد جمعية القلبين الأقدسين. وانخرطت في رسالةٍ تعليمية وتربوية خدمت من خلالها أجيالاً لبنانية، من إكليريكيين وعلمانيين، بمحبةٍ لا تضاهى.
وكانت أولاً في غزير، في الإكليريكية الشرقية بإدارة الآباء اليسوعيين، وكان من بين تلاميذها الياس الحويك، البطريرك في ما بعد. خدمت فيها ست سنوات. ثم انتقلت إلى دير القمر سنة 1860 في عزّ الحرب والمجازر الدامية التي راح ضحيتها آلاف الموارنة. وكان لها فضل في إنقاذ أولاد كثيرين وزرع روح التسامح والغفران.
سنة 1862 انتقلت لتعلّم في جبيل. وبعد سنتين انتقلت إلى معاد حيث قضت سبع سنوات كانت فيها مثال الأم والمرّبية.
سنة 1871 كانت سنةً مفصليّة بالنسبة إلى الأخت بطرسيّة إذ حُلّت جمعية المريمات. فاختارت، وبإلهام من الله، أن تتبنّى الحياة الرهبانية النسكية فتترهب عند الراهبات اللبنانيات في دير مار سمعان القرن- أيطو. وبعد سنة، أبرزت نذورها الإحتفالية واختارت اسم « رفقا» تيمّناً باسم والدتها. واختفت عن العالم في حياة صلاة وصوم وسهر وتقشف وعملٍ في الأرض، وهي العناصر الأساسية في روحانيتنا الأنطاكية المارونية النسكية.
ولكنها تطلّعت إلى أبعد من ذلك، إذ كانت تبغي أن « تشارك المسيح في آلامه لتستحق أن تشاركه في مجده أيضاً». وفي أحد الوردية من سنة 1885، وقد بقيت لوحدها في الكنيسة لتختلي بحبيبها السماوي يسوع المسيح، راحت تصلّي له أمام القربان وتطلب منه أن يمنحها نعمة الاشتراك في آلامه الخلاصية. فحاورته قائلةً:
« إلهي، لماذا تركتني ؟ إلهي، لماذا أنت بعيدٌ عني ؟ لماذا لا تزورني وتفتقدني بمرضٍ أُظهر لك به كاملَ محبتي، وبه أكفّر عن ذنوني وخطاياي وخطايا الاخرين ؟».
فاستجاب الرب يسوع سؤلها، وهو « الغني بكل رحمة» (أفسس 2/4)، وأنعم عليها « بهدية» الألم. ومنذ ذلك اليوم أحسّت بوجع أليم في رأسها ما لبث أن امتدّ إلى عينيها؛ وبدأت مسيرة الألم في طريق الجلجلة التي ستدوم ثلاثين سنة.
سنة 1897، طلب أهالي معاد والمنطقة أن تؤسس الراهبات اللبنانيات، مع الراهبة رفقا، ديراً لهنّ في جربتا حيث وهب الخوري يوحنا بصبوص أقبية المدرسة التي كان قد شيّدها سنة 1865 وتبرّع الخوري اغناطيوس ضوميط بالمساعدة على تشييد الدير. فانتقلت الأخت رفقا مع خمس راهبات، ومنهن أورسلا ضوميط، إلى دير مار يوسف الضهر في جربتا؛ وعشن معاً حياة قداسة راحت تشعّ على المنطقة كلها. وأكملت رفقا طريق جلجلتها؛ ففقدت بصرها كلّيّاً، وأضحت كسيحة، مفككّة المفاصل، طريحة الفراش، لا تقوى على الحراك.
عرفت رفقا أن آلام المسيح لا تُفهم إلا بكونها وليدة المحبة؛ فهو أحبّ البشر أجمعين لدرجة أنه بذل ذاته على الصليب فداءً عنهم. فاستهوت رفقا حالةُ الحبّ هذه، واختارت من حياة المسيح صليبه، ولم تشأ أن تعرفه وأن تنادي به إلا مصلوباً، على ما يقول القديس بولس (1 قور 1/23 و2 قور 2/2).
لذا أحبّت الألم وقَبِلته بصبرٍ وفرحٍ ورجاء شاكرةً الله على هديته ومردّدة دوماً: « مع آلامك يا يسوع»! ولم يفارقها الألم إلا بعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة في 23 آذار 1914.
بعد وفاتها، ظهرت عجائب الله بشفاعتها لدى العديد من المؤمنين، وصار تراب قبرها مصدرَ نِعم سماوية وينبوع أشفيةٍ عديدة. وذاعت شهرة قداستها. وكانت أول أعجوبة بواسطة تراب قبرها مع الأم أورسلا ضوميط في 29 آذار 1914، ستة أيام فقط بعد وفاتها.
وشاءت العناية الإلهية أن يتمّ إعلانها طوباوية و« رسولة الألم» في (17 تشرين الثاني) 1985، في الذكرى المئوية الأولى على بدء مسيرة آلامها، من البابا يوحنا بولس الثاني الذي سيُعلَن قديساً في (27 نيسان) 2014، في الذكرى المئوية الأولى لوفاتها.
وفي ما سنحتفل بعد قليل برتبة تبريك التراب على قبر القديسة رفقا، نتوجه إليك يا رب، بشفاعتها وبشفاعة أمنا وأمها مريم العذراء، ونصلّي قائلين:
يا إلهنا، لماذا أنت بعيد عنا ؟ أو بالأحرى لماذا نحن بعيدون عنك ؟
وماذا يفصلنا عن محبتك ؟ أضيق، أم شدّة، أم اضطهاد (روما 8/35)، في الحروب التي نشهدها اليوم في محيطنا الشرق الأوسطي بعد أن شهدنا مثلها الكثير في لبنان ؟
أعطنا قوّة الصبر لنثبت في إيماننا ورجائنا ونُظهر لك كامل محبتنا.
أعطنا بركةً من تراب قبر القديسة رفقا، تراب هذه الأرض المقدسة التي اخترتها لك وقفاً، فنتمسّك بها ذخيرة ثمينة نحافظ عليها كما حافظ عليها الآباء والأجداد القديسون. آمين.