عظة المطران منير خيرالله
في قداس ليلة عيد الصليب
ولمناسبة إطلاق مشروع بناء الصليب الكبير
إجدبرا، السبت 13/9/2014
« وأنا إذا ما ارتفعتُ عن الأرض جذبت إليّ جميع الناس» (يوحنا 12/32)
حضرة الخوري يوحنا مارون مفرج، خادم رعية عبرين
حضرة الخوري شربل خشان، خادم رعية إجدبرا
أحبّائي جميعاً، أبناء وبنات إجدبرا وعبرين والرعايا المجاورة،
نحتفل معاً بعيد إرتفاع الصليب، عيد المسيحيين، عيد المحبّة بامتياز.
سأتوقف بتأمّلي الليلة معكم أوّلاً حول معنى الصليب في إيماننا المسيحي، ثانياً حول تاريخ الكنيسة في حمل الصليب وثالثاً في ما نتعلّم اليوم من معنى الصليب وحمله.
أولاً، معنى الصليب: إنه سر المحبة بامتياز. الصليب الذي ارتضى أن يموت عليه يسوع المسيح إبن الله هو قمة المحبة لأن المسيح صار إنساناً وعاش بيننا على الأرض وارتضى أن يموت على الصليب وقام وعاد إلى مجده لكي يتمّم مشيئة الله الآب. ومشيئة الله الآب هي أن يخلّص البشر أجمعين. لذا تنازل إبن الله وصار إنساناً. ومن فيض محبته للبشر، وقد أحبّهم إلى الغاية، حتى أرسل ابنه الوحيد وضحّى به موتاً على الصليب لكي يفتدي جميع البشر ويحرّرهم من عبودية الخطيئة ويعيد إليهم كرامة أبناء الله وحريّتهم ويعدُهم بمجد القيامة في الملكوت. بموت المسيح على الصليب تغيّرت مقاييس البشر وانقلب منطقهم. فالصليب الذي كان علامة العار، وموت المجرمين، أصبح علامة الحرية والكرامة والمجد والحياة الأبديّة. بموت المسيح على الصليب تغيّر كلّ شيء في حياة البشر، وأصبحنا جميعاً من جديد أبناء الله. فصار الصليب نوراً وعلامة ترتفع دوماً لكي تذكّرنا أننا بالصليب افتُدينا، وأننا بالصليب استعدنا كرامة الأبناء وحريتهم، وأننا بالصليب نقوى على الخطيئة والشرّ والموت.
انتصر المسيح بموته على الصليب وقيامته؛ انتصر على الشيطان والشرّ والخطيئة وعلى الموت، وحجز لنا مكاناً في ملكوت الآب لكي نحظى بمحبته اللامتناهية إلى الأبد. إنه سرّ المحبة. « وما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبّائه»، قال لنا المسيح، وعاش ذلك مثالاً وقدوة أمامنا، وارتضى أن يموت هو قبلنا ويدلّنا على الطريق. إنها ساعة الموت، إنها كأس مُرّة. المسيح نفسه ارتجف واضطرب أمام الموت، وصلّى إلى الآب قائلاً:« يا أبتِ أبعد عنّي هذه الكأس، لكن لتكن مشيئتك لا مشيئتي». ومشيئة الآب تمّت بموت المسيح الإبن على الصليب، ثمّ بقيامته. هذا هو سرّ الله. سرّ المحبة الذي كشفه لنا يسوع المسيح بموته وقيامته.
ثانياً، الصليب في تاريخ الكنيسة. بعد موت وقيامة المسيح تعرّض الرسل والكنيسة الناشئة والمسيحيون الأولون، تعرّضوا للإضطهاد وراحوا يعيشون تحت الأرض ليحافظوا على إيمانهم بالمسيح، وراحوا يقبلون أن يموتوا ويستشهدوا في سبيل إيمانهم بالمسيح الذي تعلّقوا به، وراحوا يبشرون بمحبّته وبسرّ خلاصه للبشر أجمعين. راحوا يشهدون بمحبّتهم لبعضهم البعض أن الله محبة وأن المسيح أحبّهم وأحبّ جميع البشر، وأن المسيح بموته على الصليب وقيامته غفر لجميع البشر؛ غفر حتى لصالبيه، وترك وصية واحدة:« أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم». إلى أن جاء الملك قسطنطين وانتصر بعلامة الصليب التي ظهرت له في السماء مع كتابةٍ في نور مشعّ تقول:« بهذه العلامة تنتصر». وانتصر قسطنطين بعلامة الصليب، وأصبح مسيحياً بصلاة أمّه القديسة هيلانة وصلاة جميع المسيحيين. انتصر، وأمر بهدم المعابد وبناء الكنائس ورفعِ الصليب ليكون لجميع الناس نوراً يشعّ محبّة ومصالحة وسلاماً. كان ذلك سنة 330. وأمر أن يصبح الدين المسيحي دين الأمبراطورية الرومانية، وأخرج المسيحيين من الدّياميس، من تحت الأرض، ليعيشوا إيمانهم بحرية وكرامة. لكن المسيحيين عادوا يتعرضون للإضطهاد والإستشهاد، فحملوا الصليب بحرية ورأس مرفوع. سنة 614، دخل الملك كسرى، ملك الفرس، أورشليم وانتصر على المسيحيين، وأخذ معه مسيحيين أسرى وذخيرة الصليب رهينةً. إلى أن عاد الملك «هرقل»، ملك البيزنطيين، وانتصر على الفرس سنة 628 واستعاد المسيحيين الأسرى وأعادهم إلى أورشليم، واستعاد ذخيرة الصليب وأمر بأن يُرفع الصليب على قمة الجلجلة، مكان صلب المسيح الأصلي. وهو ما يزال مرفوعاً حتى اليوم. ومع ذلك عاد المسيحيّون في الغرب وفي الشرق يتعرضون للاضطهادات، ويتحمّلون الصليب والآلام في سبيل إعلان إيمانهم بالمسيح المائت على الصليب والقائم من الموت والمنتصر أبداً.
ثالثاً، ماذا نتعلّم نحن اليوم من عيد إرتفاع الصليب، نحن أبناء الكنيسة المارونية التي اتّخذت روحانية مار مارون النسكية، منهجية حياة لها. وروحانية مار مارون تقوم على الصليب ببعديه العمودي والأفقي. روحانية مار مارون النسكية في بعدها العمودي تقضي بعيش التقشف والصلاة والصوم والسهر والإبتهال إلى الله والإلتصاق بالأرض والعمل بها. إنه البعد العمودي الذي يصلنا مباشرة بالله وبالأرض التي خلقها لنا وقدّسها. لذا اختار تلاميذ مارون والموارنة من بعدهم أن يعيشوا على قمم الجبال وأن يرفعوا الصلبان عليها لكي يحققوا تواصلهم المباشر مع الله عبر صليب المسيح.
أما البُعد الأفقي في روحانية مار مارون النسكية فيتجلّى في علاقة أبناء مارون مع إخوتهم البشر وانفتاحهم عليهم وخدمتهم روحياً وثقافياً واجتماعياً. هكذا عاش أبناء مارون- بطاركة وأساقفة وكهنة ورهباناً وراهبات وآباء وأمهات – محبتهم لبعضهم البعض وخدمتهم للإنسان. طبّقوا وصية المسيح بعيشهم المحبة وبقوا دوماً متّحدين ومتضامنين حول رأس كنيستهم- البطريرك – الذي يمثل رمز الوحدة والعلاقة التاريخية التي تربطهم بالمسيح وبمار مارون ومار يوحنا مارون وخلفائه السبعة والسبعين وإلى ما شاء الله بعدهم. وتحمّلوا، كما إخوتهم المسيحيون في هذا الشرق، الحروب والاضطهادات والإحتلالات والتهجير، ودفعوا الثمن غالياً للحفاظ على إيمانهم بربّهم أولاً، وعلى التصاقهم بالأرض ثانياً، هذه الأرض التي قدّسها المسيح وآباؤهم القديسون، وعلى التمسّك بقيمهم ثالثاً، تلك القيم التي نُقلت إليهم في عائلاتهم وكانت كنزاً ورصيداً لهم للعيش بحرية وكرامة ورأس مرفوع.
أما في ما يحلّ بنا اليوم نحن المسيحيين في لبنان، وما يحلّ بإخوتنا المسيحيين في بلدان الشرق الأوسط، فهو في تواصل مع تاريخ الكنيسة.
لا تخافوا إذاً. كنيسة المسيح باقية وثابتة في إيمانها بالمسيح وفي رسالتها الخلاصية. وأبواب الجحيم لن تقوى عليها! وتلاميذ المسيح وشهوده في هذا الشرق هم أيضاً ثابتون في إيمانهم وعلى أرضهم. لا تخافوا عليهم !
إطمئنّوا ! مصيرنا ليس مرتبطاً بأي ملك أو أمبراطور أو سلطان أو حاكم في العالم. مصيرنا مرتبط بصليب المسيح الذي رفعناه وسنرفعه دوماً على قمم جبالنا، أو في قعر ودياننا، أو نحمله في قلوبنا. وكلّما رفعنا علامة الصليب، نشعر أننا نرتفع مع المسيح إلى السماء، إلى مجد القيامة. فالموت لا يخيفنا، نحن أقوى منه. إننا أبناء القيامة. ولأننا شهود المسيح، فكلّ صليب نحمله في قلبنا أو نرفعه في رعايانا وكنائسنا أو على قمم جبالنا، علامةً للنور الذي نحمله لمواجهة عالم الشر والخطيئة من حولنا، وهو خميرة المحبة والمصالحة والسلام التي نحملها لأخوتنا. حتى الذين يضطهدوننا، نعاملهم فقط بالمحبة لأننا نحبّهم كما أحبّهم المسيح.
وأخيراً اذا أردنا أن نرفع الصليب هنا، على هذه القمة من رعية إجدبرا، فذلك لأننا نريد أن يبقى الصليب علامة تواصلنا مع الله وعلامة انفتاحنا على العالم وعلامة مصالحتنا ومحبتنا لجميع الناس. صليبنا الذي سيرتفع هنا، إن شاء الله، سيكون صليب النور، نور المسيح، صليب المحبة والسلام للعالم كله. آمين.