عظة المطران خيرالله في قداس ليلة عيد مولد السيدة العذراء في سيدة القطين- صغار 7-9-2014

 

 

عظة المطران منير خيرالله

في قداس عيد مولد العذراء مريم

في دير سيدة القطّين- صغار- الأحد 7/9/2014

 144

« طالما أن لنا هذه الخدمة نعمة من الله فلا تضعف عزيمتنا». (2 قورنتس 4/1)

 

أبونا أنطون (نهرا) خادم هذه الرعية الحبيبة،

أحبائي جميعاً،

أوجّه تحية محبة واحترام كبير لسيادة المطران إدمون فرحات، السفير البابوي لسنوات طويلة، إبن عين كفاع الذي اعتذر اليوم وكان يرغب بوجوده معنا، ونستعيض عن غيابه بحضور شقيقه العميد الدكتور ريمون،

وإلى معالي وزير الخارجية والمغتربين الأستاذ جبران باسيل الممثل بيننا لوجوده خارج البلاد.

 

وقفتنا في هذا المكان المقدّس، وفي ليلة عيد مولد السيدة العذراء، هي وقفة ضمير.

سأتوقف عند نقطتي تأمّل: الأولى، ما نتعلّم من كلمة الله الموجهة إلينا، والثانية: ما نتعلّم من تاريخ هذا المكان المقدّس الذي نحن فيه.

أولاً، في عيد ميلاد السيّدة العذراء، يقول لنا يسوع: « إن أمّي وإخوتي هم هؤلاء الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها» (لوقا 8/21). القرابة التي تربطنا بيسوع المسيح هي القرابة التي تربطه بالله وبكلمته المغذّية لحياتنا المسيحية. وكلمة الله الموجّهة إلينا اليوم تعاد علينا كلّ يوم؛ يبقى علينا أن نسمعها وأن نعمل بها. لا يكفي أن نسمع كلمة الله، ولا يكفي أن نقول إننا مسيحيّون في الهوية، لكن يُطلب منا أن نطبقها في حياتنا. كيف نعيش تعاليم المسيح ؟ وكيف نتغذّى كلّ يوم من كلمة الله لأنها غذاؤنا اليومي ؟ وكيف نواصل إتّصالنا المباشر بالله من خلال سماع كلمته في أمكنة عديدة على هذه الأرض مثل الذي نحن عليه اليوم ؟

العذراء مريم تعلّمنا كيف نتبع إبنها يسوع المسيح، إبن الله المخلّص الذي تخلّى عن ألوهيتّه وتواضع وحمل إنسانيتنا، حمل ضعفنا ونقصنا، حمل خطايانا وارتضى أن يحملها حتى الصليب، حتى الموت على الصليب، لكي يفتدينا بموته وقيامته ويعطينا الحياة الأبديّة، حياة جديدة نصبح بها من جديد أبناء الله. إنها نعمة أعطيت لنا مجاناً منذ أن تعّمدنا باسم الآب والإبن والروح، وأصبحنا أعضاء في كنيسة المسيح، كنيسة البشر وكنيسة الحجر.

إنها الكنيسة التي بناها السيّد المسيح على الصخرة، صخرة إيمان بطرس والرسل، والتي ثبتت على مدى الأجيال، وستبقى ثابتة لأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها ولأن المسيح باقٍ فيها ومعنا حتى منتهى الدّهر. فلا خوف عليها، ولا خوف علينا.

تأمّلي الثاني حول الأمثولة التي نتخذها من هذا المكان المقدّس.

هذا الدير شُيِّد على إسم سيدة الدرّ أو سيدة البزاز في أواسط القرن السادس، حوالي سنة 555، في الصخر وفي ثلاث طبقات، وعاش فيه رهبان كثيرون على مدى التاريخ، وصل عددهم إلى ثلاثماية بحسب بعض الوثائق التاريخية. عاشوا الروحانية النسكية التي أخذوها من مار مارون، والتي عليها بُنيت كنيستنا البطريركية، كنيسة المسيح على إسم مارون، مع البطريرك المؤسس مار يوحنا مارون. هذه الروحانية تقوم على بُعدين نسكي ورسولي، عمودي وأفقي. مقوّمات البُعد النسكي العمودي تتجلّى في الصوم والتقشف والسهر والصلاة والابتهال إلى الله والعمل في الأرض. إنها مقوّمات تجعلنا نتّصل مباشرة بالله ونلتصق بالأرض التي خلقها في خدمة الإنسان.

أما مقوّمات البُعد الأفقي فتتجلّى في العلاقة مع البشر والإنفتاح عليهم وخدمتهم بالمحبة إجتماعياً وثقافياً وحضارياً. ما جعل من أديارنا مراكز إشعاع روحي وثقافي.

وهذان البُعدان يتّحدان في « روحانية الصليب» التي تربطنا بصليب المسيح ببُعديه العمودي والأفقي والذي فيه تمّم مشيئة الله الآب وخلّص البشر، على حدّ قول الآب يواكيم مبارك.

آباؤنا تلاميذ مار مارون، بطاركة وأساقفة ورهبان وراهبات ونساك وأباء وأمهات، تبنّوا هذه الروحانية وعاشوا بموجبها في مسارهم التاريخي. فاختاروا أن يعيشوا على قمم الجبال- أو في قعر الوديان التي هي قمم جبال مقلوبة على حدّ قول الأب ميشال الحايك - التي اعتبروها قمة الاستراتيجية الروحية لأنها تصلهم مباشرة بالله وتبعدهم عن العالم وهمومه وملذاته. وتعبوا في العمل في هذه الأرض وسقوها من عرق جبينهم والتصقوا بها كما التصقوا بربّهم وخالقهم، فثبتوا في إيمانهم به ووضعوا فيه ثقتهم الكاملة.

أنظروا من حولكم هذه الجلول الصغيرة؛ إنها صنع أيديهم؛ كيف حوّلوها من أرض صخرية قاحلة لا يعيش فيها إلا الماعز والموارنة إلى جنّات يعتاشون منها بحرية وكرامة ورأس مرفوع. أنظروا إلى هذا الدير بمغاوره وطبقاته الثلاث وصعوبة الوصول إليه، وتأملوا كيف عاش فيه آباؤنا الرهبان والنساك ليبقوا قريبين من ربّهم ومن أرضهم وليلتزموا بروحانيتهم النسكية بوفاء وتفانٍ وتجرّدٍ كامل عن كل ما في هذه الدنيا من مغريات.

ولكن تأملّوا معي أيضاً ماذا بقي من هذه الجلول ومن هذا الدير ؟

الأرض عادت قاحلة والدير دُمِّر وأحرق سنة 1405 في عهد المماليك وكان فيه خمسون راهباً، نجا منهم ثلاثة، قبل أن يأتي إخوانهم الموارنة ليخلّصوهم من هذا المأزق ويعيدوا بناء الدير، ويُعيدوا إليه الحياة الرهبانية والنسكية.

هكذا نتعلّم أن تاريخ كنيستنا على مدى 1300 سنة كان مسار الجلجلة، مسار الصليب والموت، ولكنه أيضاً أوصلنا إلى مجد القيامة. نقف متأمّلين أمام تاريخنا لنتعلّم منه ونتّخذ العِبَر في بناء مستقبلنا ومستقبل أولادنا وأجيالنا الطالعة. أرضنا متروكة، أديارنا القديمة ومغاورنا متروكة؛ كنيستنا تعاني اليوم من فقدان ثقة وتجد نفسها أمام مصيرٍ حرجٍ. لكن أطمئنكم، لا تخافوا ! طالما أن هذا المكان وغيره من الأمكنة يشهدون على تاريخ طويل من الصمود في عيش الروحانية النسكيّة، وفي التعلّق في الأرض المقدّسة، لا خوف علينا. ما يمّر علينا اليوم، نحن المسيحيين في لبنان وفي بلدان الشرق الأوسط ليس بشيء في مقابل ما مرّ علينا في التاريخ. كنيستنا ثبتت وبقيت، ونحن بقينا لنعلن إيماننا اليوم وكلّ يوم ولنعيش بحريّة وكرامة ورأس مرفوع. وطالما أنّ أرضنا باقية، تشهد على العلاقة المباشرة بالله، فلا خوف علينا. لكن لا بدّ لنا أن نعي مسؤولياتنا، فنعود إلى ضميرنا ونقوم بفعل توبة صادق نحتاج إليه اليوم أكثر من كلّ يوم. نحتاج إليه نحن أولاً رعاة الكنيسة، المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات، لنعود إلى تراثنا وروحانيتنا النسكيّة، ولنعود من خلالها إلى حياة رسولية أطلقتنا في العالم. ونحتاج إليه نحن ثانياً الأباء والأمهات والمربّين والمسؤولين لنعود إلى عيش قيمنا المسيحية والإنسانية. لكن طالما أن عندنا عائلات مثل عائلاتنا تريد أن تتمسّك بإيمانها وبالقيم المسيحية والإنجيلية التي تربّت وربّت عليها، فلا خوف علينا.

ثوابت تاريخنا وتاريخ كنيستنا وشعبنا كانت ثلاثة: الإيمان والمعدور والقلم.

فإذا قمنا بفحص ضميرنا، نرى أننا نكاد نفقدها؛ بينما نحن لا نريد أن نفقدَها. المسؤولية نحملها ونتحمّلها معاً، لأننا كنيسة المسيح على إسم مارون الصامدة في هذه الأرض المقدّسة. فلنتحمّل معاً مسؤوليّاتنا. ولنعمل بوحدة وتضامن، بقوة الروح وبالشهادة للمسيح، على أن تبقى كنيستنا تشعّ للعالم نوراً كما قال لنا المسيح في الإنجيل. ولنعمل على إعادة بناء وطننا لبنان، الوطن الرسالة الذي بناه آباؤنا وأجدادنا المسيحيّون والمسلمون. بنوه معاً ليكون وليبقى الوطن الرسالة. ونحن نستطيع اليوم أن نعيد بناءه في دعوته التاريخية وفي رسالته للعالم كلّه، رسالة محبّة وسلام، رسالة حرية وكرامة، رسالة مصالحة وغفران، رسالة إحترام الإنسان في تعدّدية إنتماءاته الدينية والإثنيّة والإجتماعية والثقافية والسياسية.

وأخيراً نحن أبناء أبرشية البترون، علينا أن نقوم بفعل توبة صادق لكي نعود إلى أنفسنا ونتجدّد. فنحن في مسيرة مجمع أبرشي يهدف إلى التجدّد الروحي وتجدّد الأشخاص والمؤسسات، وجميعنا معنيون به ومسؤولون على أن تبقى كنيستنا المحلية في البترون شاهدة للقداسة والقديسين.

في عيد ميلاد السيدة العذراء، نَكِلُ إليها عائلاتنا وكنيستنا ووطننا. هي التي رافقت بطاركتنا في حلّهم وترحالهم، وشعبنا في مسيرة درب صليبه، وكنيستنا في شهادتها النسكية والرسولية، كما رافقت إبنها يسوع والرسل والكنيسة الأولى الناشئة.

أنتِ يا مريم التي رافقتِ عائلاتنا التي راحت تنشد لك: « يا أم الله يا حنونة... أنتِ ملجانا وعلينا رجانا»، وأنتِ التي شيّد لك أبناؤك الموارنة الكنائس والمزارات في كل رعية وبلدة ومغارة، « تشفعي فينا يا عذراء ولا تهملينا عند ابنك يسوع »، هو وحده المخلّص ومحرّر البشرية ومانحها حرية وكرامة أبناء الله.

لا تخافوا إذاً ! نحن أقوياء، وإلى القيامة صائرون.

صلّوا معي اليوم لكي نبقى أوفياء ومخلصين لتاريخنا، لإيماننا بالله، لمحبتنا لبعضنا البعض، لكنيستنا ولوطننا الرسالة، لبنان. آمين.

Photo Gallery