عظة المطران خيرالله في قداس عيد مار شربل الرهاوي عبرين 4-9-2014

 

عظة المطران منير خيرالله

في قداس عيد مار شربل الرهاوي- عبرين

الخميس 4 أيلول 2014

 143

« لا تخافوا ممن يقتلون الجسد» (متى 10/28)

 

ابونا يوحنا مارون (مفرج) خادم الرعية الحبيبة،

أخواتي الراهبات،

أحبائي جميعاً، أبناء وبنات عبرين وكلّ القادمين من الجوار لتعيّدوا اليوم عيد مار شربل.

 

        سأتوقف عند نقطتي تأمّل: الأول في تعليم يسوع المسيح والثاني حول ما نتعلمه من حياة مار شربل الرهاوي الذي نعيّد وتعيّد له الكنيسة اليوم.

أولاً: تعليم يسوع المسيح في الإنجيل، إنجيل العيد الذي سمعناه. يسوع يريد، كما في تعليمه دوماً، أن يطمئننا. يريد أن يسدّد خطواتنا وإراداتنا لكي نعيش إيماننا بالله ونثبت فيه بثقة كاملة. « لا تخافوا، يقول لنا السيد المسيح، ممّن يقتلون الجسد» وممّن يأخذون منكم كلّ ممتلكات هذه الأرض. لا تخافوا منهم لأنّ الجسد كما كلّ ما على هذه الأرض هو فانٍ ومجده باطل. لا تخافوا من هذا. « خافوا بالحري ممّن يستطيعون أن يهلكوا النفس والجسد معاً في جهنّم»؛ لأنّ الأهم أن تخلّصوا نفوسكم؛ الأهم أن تدخلوا ملكوت الله وتنالوا الخلاص، لأني أحجز لكم مكاناً في ملكوت الآب السماوي.

إعملوا على هذه الأرض من أجل خلاص نفوسكم. إكنزوا لكم كنوزاً في السماوات؛ وهذه الكنوز هي أعمالكم. هي ما تقومون به كلّ يوم؛ أعمال رحمة ومحبّة مع إخوتكم البشر. هذه هي كنوزكم في السماوات، وهذه هي الكنوز التي تبقى لكم عندما يدعوكم الله إليه، ولا أحد يعرف متى، لا الساعة ولا اليوم. كونوا إذاً دوماً مستعدّين. عيشوا ثقتكم بالله. طبّقوا ما علّمتكم إياه في حياتكم اليومية. وما أنا علّمتكم يختصر بوصيّة المحبة: « أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم». وأنا أحببتكم إذ افتديتكم بتجسّدي إنساناً، وحملي إنسانيتكم الضعيفة، وحملي خطاياكم، وموتي على الصليب من أجلكم جميعاً، وقيامتي لفدائكم. أنتم أصبحتم بموتي وقيامتي، يقول لنا السيد المسيح، أصبحتم من جديد أبناء الله وتستحقون الملكوت. لا تخافوا إذاً، عيشوا بثقة كاملة.

ثانياً: نقطة التأمل الثانية هي حول حياة مار شربل الرهاوي من الرها، وهي مدينة معروفة في التاريخ في بلاد العراق. عُرفت بقديسيها ومعلّميها، معلّمي الكنيسة الأولى، ومنهم مار شربل الذي كان شيخاً كاهناً للأوثان في أيام الامبراطور ترايانوس قيصر (98-117)، وأصبح أسقفاً لكنيسة الرها. تعرّف إلى المسيح على يد أسقف الرها القديس برسيما الذي صنع الله بواسطته العجائب. فآمن شربل واعتمد هو وشقيقته برابيا، وراح يبشّر بالإنجيل وكرّس حياته لخدمة المسيح وشعبه. ولما علم لزياس، حاكم البلد، بما صنعه برسيما قبض عليه وأمر بقتله. فخلفَه شربل في الأسقفية على الرها. فراح يرعى شعب الله بمحبة وإخلاص وتضحية. فأحضره الحاكم وطلب إليه أن يكفر بإيمانه بيسوع المسيح. فرفض طبعاً وجاهر بإيمانه وثبت فيه شهادة لشعبه ولكنيسة المسيح التي كانت تنمو وتكبر وتنتشر متغذيةً من دم الشهداء. فأمر الحاكم بجلده، ثم مزّقوا جسده بأمشاط من حديد، ثم صلبوه وسمّروا رأسه على الصليب. فاستشهد هو وشقيقته سنة 121.

أما ما نتعلمه من حياة مار شربل فهو أمثولة نتخذها لنا جميعاً في ما يمرّ علينا نحن المسيحيين، ليس فقط في لبنان ولكن بخاصة في البلاد التي تقدّس فيها مار شربل الرهاوي في العراق وفي سوريا. المسيحيون اليوم هناك يدفعون الثمن الغالي جداً في سبيل ثباتهم في إيمانهم؛ ولم يرد أحد منهم أن يكفر بإيمانه. اضطُهدوا، خرجوا من بلادهم، ابتعدوا عنها ولم يحملوا معهم شيئاً، فقط ثيابهم، وما توفّر سُرقَ منهم على الطريق. لم يأخذوا شيئاً لكنهم مقتنعون أن كلّ أموال هذه الدنيا ومقتنياتها لا تساوي شيئاً في مقابل النعمة التي أخذوها من السيد المسيح، أنّهم أبناء كنيسته وأنهم أبناء الشهداء والقديسين في تلك البلاد وفي كلّ بلدان الشرق الأوسط. إنها أرض المسيح إنها أرض الرسل، إنها أرض القديسين. من استشهد هناك سقى الأرض بدمائه، ومن حاول أن يهرب من الموت ويبتعد، حمل في قلبه تراث وإرث كنيسته وشعبه. إنهم هنا، نستقبلهم اليوم في لبنان، أو نستقبل البعض منهم كما نستطيع، وغيرهم ابتعد من لبنان، ابتعدوا إلى أوروبا وأميركا، وربّما سيبتعد الآخرون، لكنّهم يحملون معهم إيمانهم بالسيد المسيح وقناعتهم بأنّهم لم ولن يخافوا ممّن يقتل الجسد. سيحافظون على نفوسهم وعلى عائلاتهم. ونحن أيضاً مدعوّون في أرضنا في لبنان، وهي أرض القديسين وأرض مقدّسة، هي أرض وقف لله، نحن مدعوّون أن نثبت في إيماننا فيها مهما كلّفنا الأمر. وإذا قست علينا الأيام، لن تكون أقسى مما مرّ على آبائنا وأجدادنا من احتلالات واضطهادات وحروب ومحن في أيام الامبراطوريات والسلطنات والممالك؛ بقوا ثابتين وصامدين في إيمانهم ووصل هذا الإيمان إلينا. فنحن اليوم مدعوّون إلى أن نحافظ عليه وإلى أن نشهد له مهما كلّفنا الأمر، لأنّ أمجاد هذه الدنيا باطلة ولن نحمل منها شيئاً معنا يوم نغادر هذه الحياة. نبقى نحن، وكنيستنا ستبقى، وشعبنا سيبقى، وأرضنا ستبقى لأنها أرض الشهادة، أرض القداسة، أرض الله. لا تخافوا إذاً، مار شربل الرهاوي الذي كان مثالاً وقدوة، وسيبقى مثالاً وقدوةً لنا أوّلاً نحن المطارنة والأساقفة، ولنا نحن الكهنة والرهبان والراهبات، ثمّ لنا نحن شعب الله، سيبقى لنا قدوةً ومثالاً في تضحياته، في إخلاصه، في جهوده، في ثباته في الإيمان، في الإبتعاد عن كلّ ملزات هذه الدنيا. تعالوا نعود معاً إلى ذواتنا وإلى الله في وقفة ضمير في ليلة هذا العيد. مار شربل، الذي تشبّه به شربل مخلوف الناسك واتخذ اسمه تيمناً به ليعيش على طريق القداسة مثله، يدعونا إلى أن نفحص ضميرنا، ابتداءً منا نحن رؤساء الكنيسة وأن نقوم بفعل توبة صادق لأننا نحتاج إلى توبة جميعاً. نحتاج إلى فعل توبة لأننا لا نخاف ممن يقتل الجسد، لكن علينا أن نخاف ممن يستطيع أن يهلكنا في جهنّم، أن يبعدنا عن القيم المسيحية الإنجيلية والقيم الإنسانية التي تربينا عليها والتي كانت وستبقى رصيدنا وكنزنا في بناء مستقبلنا ومستقبل أولادنا. لذا فإننا نحتاج إلى فعل توبة صادق لنتّخذ المقاصد فنجدّد التزامنا بعيشنا المسيحي ونجدّد التزامنا بالتضامن والوحدة في سبيل إعادة بناء وطننا لبنان الذي قيل فيه إنّه الوطن الرسالة؛ وسيبقى الوطن الرسالة بفضل جهودنا جميعاً نحن المسيحيين أولاً ثم إخوتنا المواطنين المسلمين. سنعيد بناء وطننا لبنان. فإذا تهدّم الحجر سيبقى البشر شهوداً لقيمهم كي نبني من جديد ما هدّمه الحقد والبغض وهدّمته الخطيئة. نحن بالمسيح أقوياء؛ ونحن بالمسيح أقوى من الشرّ والحقد والإنتقام والموت، نحن أبناء القيامة، نحن أبناء المجد.

صلاتنا إذاً من أجلكم جميعاً، من أجل عائلاتكم، من أجل شعبنا وكنيستنا ووطننا، من أجل جيشنا حامي هذا الوطن، كي نتعلم اليوم من القديس شربل الرهاوي ومن القديس شربل مخلوف ومن جميع قديسينا، كي نتعلّم أننا ثابتون وأن الله يحبّنا ويغار علينا ويسهر علينا ويقوّينا. ويقول لنا السيد المسيح اليوم وكلّ يوم:« لا تخافوا ! أنا غلبت العالم. لا تخافوا ! أنا معكم حتى منتهى الدّهر». آمين.

Photo Gallery