عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار ماما- إده
الإثنين 1/9/2014
« أنا جئت نوراً الى العالم كي لا يمكث في الظلام كل من يؤمن بي» (يوحنا 12/46)
حضرة الخوري إيلي(سعاده) خادم هذه الرعية الحبيبة،
سعادة قائمقام البترون الأستاذ روجيه طوبيا،
حضرة رئيس البلدية الأستاذ نسيب شديد،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات إده والجوار،
أريد أن أتوقف اليوم عند نقطتي تأمل:
النقطة الأولى حول تعليم المسيح وشهادة مار ماما شفيع الشباب الشهداء؛
والنقطة الثانية حول هذا المكان المقدس الذي نحن فيه اليوم وتاريخه العريق وهو تاريخ كنيستنا.
أولاً يسوع المسيح، الذي سمعناه في إنجيل يوحنا، إنجيل عيد القديس ماما، يقول: « أنا هو النور جئت الى العالم كي لا يمكث في الظلام كل من يؤمن بي». جاء المسيح ينير طريقنا، لا ليديننا، كما يقول في الإنجيل، بل ليخلصنا ويعطينا الحياة الابدية. « ومن أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويتبعني» ويحفظ وصاياي في حياته كل يوم.
مار ماما الذي نعرف عنه أنه كان شاباً من عائلة مسيحية. وعندما أصبح وحيداً بعد سجن والديه واستشهادهما في أيام الاضطهاد في أواسط القرن الثالث، تربى عند عائلة مسيحية وكان يرعى المواشي. تربى على الإيمان المسيحي وتقرب كثيراً من يسوع المسيح واعتبر أنه هو نوره الوحيد وخلاصه الوحيد. راح يصلي ويعيش إيمانه ويلتزم به في حياته كل يوم ببساطة وتواضع؛ وبالتزام عميق إلى أن طلب منه الامبراطور أوريليانوس أن يكفر بإيمانه بيسوع المسيح وهو في الخامسة عشرة من عمره؛ فرفض وثبت في إيمانه وأعلنه أمام الجميع. فحكم عليه الامبراطور بالموت؛ فمات شهيداً، وأصبح شفيع الشباب والصبايا الذين يقدمون حياتهم في سبيل إيمانهم بيسوع المسيح.
هذا الشهيد مار ماما يعلّمنا في هذه الأيام، الأيام العصيبة التي تمرّ علينا في لبنان وفي بلداننا في الشرق الأوسط، التي تمرّ علينا نحن المسيحيين بالذات، وإخوتنا في العراق وفي سوريا يدفعون الأثمان الباهظة في سبيل إيمانهم بيسوع المسيح ويُقتلون ويُهجَّرون تاركين كل ما يملكونه على الأرض. وبينهم من استشهد في سبيل إيمانه بالمسيح، ومن هرب بثيابه فقط، ولم يستطيعوا أن يحملوا معهم شيئاً، لكنهم حملوا معهم إيمانهم بالمسيح وبقوا ثابتين فيه ولم يخافوا؛ لأنهم اعتبروا أن كل ما في هذه الدنيا من سلطنات وممتلكات وأموال ومجد، كلها باطلة، فقط يسوع المسيح هو الباقي، ومن يدعوه معه إلى الحياة الأبدية هو الذي يبقى وهو الذي ينتصر على الشر والحقد والبغض والخطيئة والموت. هؤلاء هم إخوتنا المسيحيون الذين نحاول أن نستقبلهم ونستضيفهم في لبنان قبل أن يرحلوا إلى بلدان بعيدة في أوروبا أو في أميركا. لسوء الحظ إنهم استؤصلوا من أرضهم؛ ولكنهم سيبقون يحملون تراث كنيستهم وإيمانهم في قلوبهم أينما حلّوا في العالم. لكن الأمثولة التي تبقى لنا نحن في لبنان، نحن المسيحيين، هي أن نثبت في إيماننا وأن لا نخاف من شيء ولا على شيء في هذه الدنيا لأننا أقوياء بالمسيح.
إذاً في عيد مار ماما الشهيد نحن نثبت في إيماننا؛ ونقول لكم باسم المسيح، وكما قال المسيح لتلاميذه وشعبه:« لا تخافوا أنا غلبت العالم»، «لا تخافوا أنا معكم حتى منتهى الدهر»؛ وكما أنا انتصرت على الخطيئة والشر والموت، أنتم أيضاً ستنتصرون على الخطيئة والشر والموت بالمحبة والسلام والمصالحة وخدمة إخوتكم البشر بدون حساب وبدون مقابل.
أما التأمل الثاني فهو حول هذا المكان المقدس الذي نحتفل فيه اليوم بعيد مار ماما؛ ونذكر الذين تعبوا عليه وعلى هذه الكنيسة وعلى المدرسة التي كانت بقربها وعلى كل ما حولها من أوقاف؛ وأخصّ الخوري يوسف شديد مؤسس هذه الوقفية، والمطران الياس شديد مطران البترون النائب البطريركي في أيام البطريرك الياس الحويك، وكان له أفضال كثيرة على منطقتنا وعلى أبرشيتنا؛ والمطران جون شديد مطران لوس أنجلوس في أميركا لسنوات عديدة؛ وهو أيضاً له أفضال كثيرة على كنيستنا وعلى إخوتنا الموارنة واللبنانيين في أميركا بنوع خاص. والثلاثة لهم أفضال في أن يبقى إرث هذه الكنيسة حياً في قلوبنا. وعرفت مؤخراً أن جدّي الخوري بطرس من مراح الزيات علّم في هذه المدرسة في أوائل القرن العشرين، حيث كانوا يتعلمون في مدارس تحت السنديانة قرب الكنيسة؛ ومن هذه المدرسة، أي مدرسة تحت السنديانة وقرب الكنيسة في قرانا ورعايانا، تخرّج الكبار والعلماء وذهبوا إلى العالم كله وصار يقال فيهم «عالِم كماروني»؛ نعم، من مدرسة تحت السنديانة.
كم نفتقد اليوم إلى هذا التاريخ، وهل نستطيع أن ندير مدرسة واحدة اليوم؟ لماذا؟ الأزمة كبيرة، الأزمة الإقتصادية كبيرة ولكن الأزمة الأخلاقية أكبر، لأننا نحتاج اليوم، وأكثر من كل يوم، إلى أن نستعيد قيمنا، القيم التي تربينا عليها في عائلاتنا، القيم التي كانت رصيدنا في أن نبقى ثابتين في إيماننا بالله وفي محبتنا لبعضنا البعض وفي تمسكنا بأرضنا المقدسة. هكذا صمد آباؤنا وأجدادنا وتقدس منهم الكثيرون؛ وهكذا وصل إلينا هذا الإيمان ووصلت هذه القيم وعلى رأسها الحرية والكرامة.
نحن اليوم أمام وقفة ضمير في هذا المكان المقدس وفي هذا العيد. علينا إذاً أن نعود إلى ذواتنا فنفحص ضميرنا لنقوم بفعل توبة صادق أمام الله ونعده بأننا سنجدد حياتنا وبأننا سنستعيد قيمنا وسنربي أولادنا وأجيالنا الطالعة على تلك القيم، لأنها وحدها كنزنا ورصيدنا لمستقبلنا. لن نحمل معنا شيئا من هذه الدنيا، بل نحمل معنا فقط أعمال المحبة والمصالحة والسلام. فنحن خميرة في هذا الشرق، ونحن نور هذا الشرق، وسنبقى كذلك مهما قست علينا الأيام ومهما اضطُهدنا. ومن يريد أن يضطهدنا فليعرف أننا لسنا خائفين. نحن أقوياء بالمسيح، أقوياء بقديسينا وشهدائنا، وأقوياء بكم وبكل عائلة من عائلاتنا، وأقوياء بشبابنا وصبايانا؛ فهم سيحملون رسالة كنيستنا ليس فقط في لبنان بل أيضا إلى العالم كله وأينما حلّوا؛ وحتى لو هاجروا وابتعدوا عن لبنان سيبقون حاملين هذا التاريخ في قلوبهم ومتمسكين بأرضهم المقدسة، إنها أرض وقف لله وليست ملكاً لنا. آمين.