عظة المطران خيرالله في قداس ذكرى تطويب القديسة رفقا وعيد الإستقلال 22-11-2014

 

عظة المطران منير خيرالله

في قداس ذكرى تطويب القديسة رفقا وعيد الإستقلال

السبت 22/11/2014، دير مار يوسف جربتا

 153

« قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» (يوحنا 8/58).

 

صاحب السيادة المطران بولس آميل (سعاده)، أبينا وأب هذه الأبرشية

إخوتي الكهنة المرشدين

إخوتي كهنة الرعايا

أبونا بولس (القزي) مرشد هذا الدير

رئيس رابطة الأخويات في لبنان

أحبائي جميعاً.

 

المناسبة التي تجمعنا اليوم تدعونا للعودة الى ذواتنا والى الله. لأننا أولاً تعودنا أن نلتقي في مثل هذا اليوم وفي هذا المكان بالذات منذ ثلاثين عاماً، (أي منذ سنة 1985)، مع الأخويات، للاحتفال بعيد الراهبة رفقا وبعيد الاستقلال. ولأننا ثانياً نحتفل هذه السنة باليوبيل المئوي لوفاة القديسة رفقا. ولأننا ثالثاً أصبحنا في منتصف مسيرة المجمع الأبرشي التي بدأناها منذ عام. كل هذه المناسبات تدعونا للتوقف عند حياة رفقا ولاتخاذ الأمثولات والعبر.

عاشت رفقا وتقدست في العالم وخارج العالم؛ وحياتها انقسمت الى مرحلتين: مرحلة العمل في العالم والالتزام فيه، ومرحلة البعد عن العالم في حياة نسكية.

عاشت رفقا أولاً في العالم؛ ومنذ طفولتها فقدت والدتها وبدأت تحمل الصليب وتتخطى المحن. ثم دخلت في رهبنة جمعية المريمات التي أسسها الآباء اليسوعيون في بكفيا وراحت تخدم العالم ومجتمعها في التربية والتعليم. وتنقلت في أمكنة عدة لكي تربي وتعلم الأولاد متشبّهةً بالمعلّم الوحيد والأوحد يسوع المسيح. فحملت حياة المسيح مثالاً لها تبشر بها بشهادتها يومياً في المدارس التي خدمت فيها وفي المجتمع الذي عاشت فيه.

ولا بدّ أن نركّز على أهمية التاريخ؛ إذ إن رفقا عاشت هذه الرسالة التربوية وبخاصة بين عامي 1840 و1861 عندما كان شعبنا وإخوتنا الموارنة يتعرضون للحرب وللمذابح، وخصوصاً في الجبل سنة 1860 يوم كانت رفقا تخدم في دير القمر. واضطرت الى أن تخبىء في ردائها أحد الاطفال الذي كان ملاحقا من الجنود الاتراك ليذبحوه كغيره من الذين كانوا يذبحون. عاشت إذاً أزمة شعبها في أقوى مراحل المحن والصعوبات، وعرفت كيف تقدم ذاتها خدمة لشعبها ولوطنها، وكانت مثالاً وقدوةً.

أما المرحلة الثانية من حياة رفقا، التي امتازت بالبُعد عن العالم، فابتدأت يوم كانت تعلّم في معاد حيث اكتشفت دعوتها النسكية وقررت أن تدخل مع الراهبات اللبنانيات المتوحدات في دير مار سمعان القرن- أيطو. هناك عاشت بعيداً عن العالم وهي لا تزال في العالم، كما يقول السيد المسيح لرسله وتلاميذه. عاشت دعوتها النسكية في عودة الى ذاتها والى ربها وراحت تصلي وهي بعيدة عن العالم؛ تصلي لشعبها ولوطنها ولأبناء كنيستها. ثم جاءت إلى هذا المكان، بعد طلب ملحّ من العائلة المعادية، لتؤسس هذا الدير وتطلق منه عودةً نسكية لكنيستنا في موازاة ما كان يقوم به مار شربل في عنايا. ومع أخواتها الراهبات أطلقت رسالة جديدة كانت كنيستنا وكان شعبنا ووطننا في حاجة إليها. ثم ما لبثت أن طلبت من السيد المسيح أن تحمل الصليب معه وأن ترافقه على درب الجلجلة. فأعطاها أن تشاركه في آلامه وتألمت في عينيها وجسدها، الى أن أصبحت عمياء بالكامل ومفككة الأوصال، لكن روحها بقيت تنفح قداسة ليس فقط في هذا الدير بل أيضاً في منطقتنا في جبيل والبترون وفي كل لبنان.

أما اليوم وفيما نحن نحتفل باليوبيل المئوي على وفاتها، وفيما نحن في مسيرة مجمعية في أبرشيتنا تهدف الى التجدد الروحي والتجدد في الأشخاص وفي المؤسسات، وفيما نحن نحتفل اليوم بعيد استقلال لبنان، نحن مدعوون الى أن نتخذ من حياة رفقا أمثولات كثيرة.

أولاً: نحن مدعوون في هذا العالم إلى أن نلتزم بعيش القيم المسيحية في وطننا لبنان وفي بلداننا الشرق أوسطية التي تعاني من الحروب والعنف والحقد والبغض والكراهية، ومن التعصب الأعمى الذي لا يعترف به أي دين، لا مسيحي ولا إسلامي ولا يهودي. وفيما نواجه كما واجهت رفقا الأزمة ذاتها، نحن مدعوون إلى أن نثبت في إيماننا وفي المحبة والتضامن بين بعضنا البعض، وأن نتمسك برجائنا بالمسيح الذي هو أقوى من الشر والخطيئة والموت.

ثانياً: نحن نعيش في العالم لكننا مدعوون اليوم، كما رفقا، الى أن نبتعد ولو قليلاً عن هذا العالم وكل ما فيه لكي نعود الى ذواتنا والى ربنا. فنحن نحمل إرث كنيستنا في دعوتها النسكية حتى ولو كنا في العالم. نحن مدعوون إلى أن نبتعد عنه وأن نعود الى تراث روحانية كنيستنا في مقوماتها النسكية، أي الصلاة، والتقشف والسهر والابتهال الى الله والتعلق بالارض التي نحن منها وإليها، لأنها أرض مقدسة. نحن مدعوون مع رفقا إلى أن نحمل الصليب بفرح وإيمان ورجاء. فالصليب هو مرافق للمسيحيين، مرافق لكنيسة المسيح، ومرافق لكنيستنا منذ نشأتها. فالمسيح يقول لنا اليوم كما كل يوم: من لا يحمل صليبه ويتبعني فلن يستحقني.

ثالثاً: نحن مدعوون الى أن نحتفل بعيد استقلال وطننا لبنان، هذا الوطن الرسالة، رسالة في المحبة والمصالحة والسلام، في الانفتاح وقبول الآخر واحترام التعددية. هذا الوطن الرسالة الذي استقل بحرية وكرامة أبنائه جميعاً، مسلمين ومسيحيين. نحن مدعوون اليوم الى أن نجدد إيماننا بهذا الوطن الرسالة وأن نجدد انتماءنا إليه وأن نلتزم الدفاع عنه لأنه وطن رسالة، كان وسيبقى نموذجاً للعالم كله. حتى ولو قيل لنا إن الاستقلال اليوم ليس بحقيقة، نحن نقول للجميع، وبخاصة لإخوتنا المسيحيين والمسلمين اللبنانيين، إن هذا الوطن الذي هو ثمرة تضحيات آباء وأجداد لنا، سيبقى، كما كان، لنا ولأولادنا ولأجيالنا الطالعة، رسالة فريدة ومميزة.

 

لا تخافوا إذاً ! فبعد أن تعبر موجة العنف والحروب والتعصب الأعمى، نحن سنبقى ولبنان سيبقى. علينا فقط أن نقبل بمواجهة التحديات، كما قبلت رفقا، وكما قبل شربل ونعمة الله والأخ اسطفان وغيرهم القديسون من أرضنا، بثبات وإيمان ورجاء؛ لأننا نعرف أننا مع المسيح منتصرون، وليس لنا من مخلص سواه.

« على خطى مار يوحنا مارون وجميع قديسينا نتجدّد ونتقدس بالمسيح»: هذا هو شعار مجمعنا الأبرشي، وعليه سنعيش مسيرتنا معاً نحو التجدّد. وأنتم يا أبناء وبنات الأخويات في طليعة المسؤولين عن هذه المسيرة مع كهنتنا، خدام رعايانا، بتضحية ومحبة وعطاء، لأنكم أعضاء في جسد المسيح السرّي، أي في الكنيسة الأبرشية، كنيسة المسيح في البترون. آمين.

Photo Gallery