عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار يوحنا مارون، البطريرك الأول وشفيع الأبرشية
الأحد 1 آذار 2015، كفرحي
« أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم». (متى 5/13-16).
صاحب السيادة المطران بولس آميل سعاده،
إخوتي الكهنة وأخواتي الراهبات،
المسؤولين السياسيين والمدنيين،
أحبائي جميعاً.
تدعونا الكنيسة اليوم، في عيد أبينا مار يوحنا مارون، البطريرك الأول وشفيع أبرشيتنا، إلى العودة إلى الإنجيل والتأمل في العظة على الجبل التي رسم فيها السيد المسيح دستور الحياة المسيحية للمؤمنين الذين يريدون أن يكونوا له تلاميذ وشهوداً في عالمهم. فهو يرسم برنامج التصرّف المتواضع والوديع والرحيم والمحبّ والساعي إلى السلام. ثم يذكّر أن الإنتماء إلى المسيح يعني احتمال العار والاضطهاد وحمل الصليب، ويحمّل تلاميذه مسؤولية كبرى تضاهي كرامتهم أمام الله: أنتم ملح الأرض... أنتم نور العالم. ولكن الويل لهم إذا فَسُدَ ملحُهم وإذا وُضع نورهم تحت المكيال !
هكذا فَهِمَ مارون تعليم المسيح وعمل بموجب هذا الدستور. فزهد في العالم وتسلّق قمة جبل في منطقة قورش الأنطاكية ليعيش علاقة خاصة مع الله في حياة نسكية تميّزت بالوقوف المستمرّ في العراء والاستغراق في الصلاة والسهر والصوم والتقشف والعمل في الأرض. ولدى وفاته سنة 410، كان تلاميذه قد تكاثروا وانتشروا: منهم من بقي في منطقة قورش وأفاميه وأنطاكيه وبنى الكنائس والأديار، ومنهم من قصد جبال لبنان مع إبراهيم القورشي واستوطنوا جرود جبيل والبترون وجبّة بشري، بقصد التبشير في المناطق الفينيقية. فحوّلوا معابدَها إلى كنائس وأديار وشعوبَها إلى مسيحيين يرنّمون لاسم الله الواحد الآب والابن والروح القدس.
في انتشارهم الأول، اختار أبناء مارون أن يسلكوا مجرى نهر العاصي، لأنه النهر العاصي على الطبيعة، إذ ينطلق من منبعه في جبال لبنان قرب الهرمل شمالاً لا جنوباً قبل أن ينزل غرباً ليصبّ في البحر. فانطلقوا من دير مار مارون الأم على العاصي صعوداً شرقاً ثم جنوباً حتى منبعه، وبنوا أديرتهم على ضفافه، قبل أن ينتشروا في كل الاتجاهات ويكوّنوا شعب مارون. فدُعُوا بجماعة العصاة والرافضين والمتمرّدين.
إلى أن أتى يوحنا مارون، رئيس دير مار مارون الأم ومطران البترون، وأسس الكنيسة البطريركية في أواخر القرن السابع في جبل لبنان، وأمّن لها استقلالاً ذاتياً في قلب الكنيسة الأنطاكية وضمن نطاق الامبراطورية العربية الإسلامية، من دون أن تتقوقع على ذاتها أو تتعدى على الآخرين. ما سمح لها بالإنفتاح والإنتشار جنوباً وشرقاً وغرباً.
فحافظت الكنيسة المارونية بعد يوحنا مارون، وعلى مرّ العصور، على روحانيتها النسكية ومركزيتها البطريركية من جهة، وعلى صفتها الأنطاكية من جهة أخرى، إذ كانت انفتاحاً على العالم لغةً وثقافةً وعرقاً وكانت حريةً وتحرراً.
أولاً، نسكياً:
مارس الموارنة، في مسيرة تاريخهم، عناصر النسك في حياتهم اليومية. والنسكُ بالنسبة إليهم هو عنصر الرفض والإعتراض والإعتصام والإعتزال (والإعتزال هو نقيض الإنعزالية). اختاروا العيش في العراء على قمم الجبال، أو في قعر الوديان، وبَقُوا واقفين منتصبين في الصلاة والسهر والصوم والتقشف والزهد بالعالم وفي العمل في الأرض الصخرية القاحلة التي حوّلوها إلى جنّات. وظلّوا متكوكبين حول بطريركهم وموحَّدين في كنيستهم. ما أعطاهم مناعةً للدفاع عن النفس وعن حقوق الآخرين في العيش الحرّ الكريم.
ثانياً، أنطاكيّاً:
تبنّت المارونية، حيثما وُجدت، اللغات والثقافات والحضارات المتعددة: من السريانية إلى اليونانية فالعربية فاللاتينية فالفرنسية فالإنكليزية فالإسبانية والبرتغالية.
في انتشارهم العالمي، تكيّف الموارنة عرقياً وثقافياً وإجتماعياً مع شعوب البلدان التي استوطنوها، وامتزج دمُهم بدمها. أليست هذه الظاهرة تطبيقاً لوصايا المسيح: أنتم ملح الأرض، أنتم كالخمير في العجين (متى 13/33) ؟ فالملح لا يخاف من أن يذوب في الطعام لأنه يجيّد طَعْمَه، والخمير لا يخاف من أن يذوب في العجين لأنه يخمّره فيصبحُ صالحاً للخبز ولإطعام الناس.
وكانت المارونية حريةً وتحرراً لأنها، كالأنطاكيّة مع بولس الرسول، دخلت الشعوب الوثنية ثم الإسلامية وكرّستها للمسيح من دون أن تُخضعها لمقولة الشعب المختار؛ فحرّرتها من كل سلطة زمنية.
هكذا تمركز أبناء مارون في جبل لبنان وجعلوا منه معقلاً للحريات. فاستقبلوا فيه كل مضطهَدٍ ومناشدٍ للحرية في هذا الشرق. وبالرغم من صغره لم يضقْ يوماً بأحد. ثم أسسوا مع إخوتهم المسيحيين والمسلمين وطناً رسالة، دولة لبنان الكبير، بفضل البطريرك الياس الحويك. ولم يريدوه وطناً قومياً لهم. كل ذلك لأن الموارنة قوم يعشق الحرّية ويرفض السلطوية. إنهم ينتمون ولحسن حظهم، كما يقول الأب يواكيم مبارك، إلى كنيسة غير إمبراطورية أو سلطانية. قد يخضعون للسلطة ويقبلون بها، ولكنهم يكرهونها. فمنذ خمسة عشر قرناً وهم يحاربون السلطنات على أنواعها، من بيزنطية وإسلامية وغربية. وقد أدى ذلك في كثير من الأحيان إلى ضَعْفٍ أو تقوقع، ولكنه حرّر كنيستهم على مرّ العصور من السلطة وأحكامها. كانوا أقوياء لأنهم كانوا خارج السلطة وخارجين عليها.
وبين يوحنا مارون والياس الحويك، حقّق أبناء مارون في ألف وثلاثماية سنة، إنجازاتٍ عديدةً، روحياً وثقافياً وإجتماعياً ووطنياً. ولعبوا دورهم وتحمّلوا مسؤولياتهم إذ كانوا ملحاً ونوراً وخميرة للشرق كما للغرب.
فأين هم اليوم، أبناء مارون ويوحنا مارون، في الظروف الاستثنائية التي تمرّ على وطنهم لبنان وعلى المنطقة، بينما تتعرّض بلدان الشرق الأوسط إلى هجوم دولة التطرّف والتعصّب، ويتعرّض إخوتهم المسلمون إلى اقتتال مدمِّر، وإخوتهم المسيحيون إلى قتل وسبيٍ وتهجير ؟
كيف يتحّملون مسؤولياتهم في الحفاظ على لبنان، الوطن الرسالة، الذي طالما ضحّى آباؤهم، مسيحيون ومسلمون، في بنائه دولة فريدة ومميزة في العيش الواحد وفي الحرية والكرامة واحترام التعددية ؟
البطريرك مار نصرالله بطرس صفير جاهد في سبيل جمع أبنائه، الموارنة واللبنانيين، ورفَعَ الصوت عالياً وحَمَلَ لواء الحرية والوحدة الوطنية حفاظاً على لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه سيداً مستقلاً محرَّراً.
ويعمل البطريرك مار بشاره بطرس الراعي على تثبيت أبناء مارون في مسؤولياتهم الوطنية ودورهم ورسالتهم عبر احترام الدستور والميثاق الوطني.
مار مارون ومار يوحنا مارون وجميعُ بطاركتنا، وكثيرون من إخوتنا المسلمين، قادةً روحيين وسياسيين، يوبخّون ضمير أبناء مارون ويقولون لهم: أنتم ملح هذا الشرق؛ فلا تتركوه فريسةً للأَحادية والتعصب الأعمى!
لكن، لا تخافوا يا أبناء مارون! نحن قادرون على مواجهة المحنة كما واجهنا أكبر منها في تاريخنا وانتصرنا بصليب المسيح. نحن قادرون على ممارسة السلطة التي أعطيت لنا بمقوّمات إنجيلية ونسكية، في التواضع والوداعة والمحبة وفي التجرّد في الخدمة من أجل الخير العام وإنقاذ الوطن. آمين.