عظة المطران منير خيرالله
في قداس اليوم العالمي الثالث والعشرين للمريض
الأحد 15 شباط 2015، في دير مار يوسف جربتا
« كنتُ عيناً بصيرةً للأعمى ورِجلاً صحيحة للأعرج» (أيوب 29/15).
إخوتي الكهنة، أخواتي الراهبات،
حضرة الخوري إدغار الهيبي الأمين العام للّجنة الأسقفية لراعوية الخدمات الصحية في لبنان،
حضرة رئيس وأعضاء لجنة راعوية الخدمات الصحية في أبرشية البترون، أحباءنا العاملين في حقل الرعاية الصحية، وأصحاب الإرادات الطيبة.
بدعوة من لجنة راعوية الخدمات الصحية في أبرشيتنا، نحتفل معاً باليوم العالمي الثالث والعشرين للمريض في ذكرى ظهور العذراء مريم في لورد ودعوتها لجميع المؤمنين إلى الصلاة والتوبة والثبات في إيمانهم بابنها يسوع المسيح المعلّم والطبيب والمخلّص الوحيد.
والموضوع الذي اختاره قداسة البابا فرنسيس لهذه السنة يعيدنا إلى سفر أيوب في العهد القديم بهذه الكلمات: « كنتُ عيناً بصيرة للأعمى ورجلاً صحيحة للأعرج» (29/15)، ويتوجه من خلاله إلى «الذين يحتملون ثقل المرض ويوحّدهم بطرق مختلفة جسدُ المسيح المتألم» وإلى « الجسم الطبّي وجميع المتطوعين في حقل الصحة».
وإذا عُدنا إلى قراءة سفر أيوب وإلى قراءة حياة القديسة رفقا، التي تقدّست بالألم واشتركت بجسد المسيح المتألم، نجد صدىً لكلمات أيوب وتطابقاً في مسيرة أيوب ورفقا نحو الخلاص والملكوت وقبولاً بمشيئة الله التي منحتهما حكمةَ القلب.
وحكمةُ القلب، يقول البابا فرنسيس، ليست مجرد معرفة نظرية، بل هي، بحسب القديس يعقوب، معرفة «نقيّة، مسالِمة، مسامِحة، متيقظة، مليئة بالرحمة وبالثمار الطيبة، دون تحيّز ودون خبث» (3/17). إنها الحكمة التي تنزل من علُ، نعمة من الله. وينطلق البابا فرنسيس من هذه الحكمة ليشرح ثمار اليوم العالمي للمريض:
1- حكمة القلب تعني خدمة الأخ، خدمة من هم في حاجة إلى خدمة. ويتساءل: كم من بيننا يشهدون اليوم، لا من خلال أقوالهم، بل في أعمالهم وانطلاقاً من حياتهم المتجذرة في إيمان ملتزم، ليكونوا عيناً بصيرة للأعمى ورجلاً صحيحة للأعرج ؟
إنها خدمة صعبة وتتطلب التزاماً طويل الأمد من الأشخاص الذين يرافقون المريض المحتاج إلى عناية. إنه من الصعب أن نعتني بشخص مريض على مدى أشهر وسنوات، حتى ولو كان من أقرب المقربين. لكنه الطريق المميّز للوصول إلى القداسة.
2- حكمة القلب هي أن نكون مع الأخ. الوقت الذي نكرّسه لنكون بقرب المريض هو زمن مقدس. إنه تمجيد الله الذي يجعلنا نتشبّه بابنه يسوع الذي جاء ليَخدم لا ليُخدم. فنكرّس الوقت لمرافقة المرضى، كما كان يرافقهم يسوع، ونحبّهم كما يحبّهم يسوع، لكي يشعروا أنهم حقيقة محبوبون وأن لهم مكاناً في قلوبنا وفي حياتنا.
3- حكمة القلب هي الخروج من الذات باتجاه الأخ. وهي وصية عزيزة على قلب البابا فرنسيس، ويمنحها الأولوية المطلقة كإحدى الوصيتين الأساسيتين التي تُبنى عليهما قيمة أخلاقية وكجواب على العطاء الكلّي المجانية من قبل الله (فرح الإنجيل، عدد 178). إنها المحبة الفعلية للقريب التي تنبثق من طبيعة الكنيسة التبشيرية.
في مجتمع الإستهلاك والأنانية ننسى الآخر، وننسى قيمة الوقت الذي نقضيه بالقرب من مريض، وننسى بُعد المجانية في العطاء والخدمة.
4- حكمة القلب هي التضامن مع الأخ بدون إدانته.
المحبة تحتّم علينا أن نأخذ الوقت للعناية بالمرضى والمحتاجين إلى محبة؛ وأن نأخذ الوقت لزيارتهم ولنكون بقربهم، كما فعل أصدقاء أيوب الذين « جلسوا على الأرض لسبعة أيام بلياليها» (2/13) ولكن في نفوسهم كانوا يفكرون أن بؤسه هو عقاب من الله.
المحبة الحقة هي مشاركة لا تدين. « إختبار أيوب، يقول البابا فرنسيس، يجد جوابه الحقيقي فقط في صليب يسوع، الذي هو الفعل الأسمى لتضامن الله معنا بكل مجانية وبرحمة كليّة».
أحبائي، إخوتي وأخواتي في أبرشية البترون،
تعالوا نلبّي نداء قداسة البابا فرنسيس فنخدم إخوتنا المحتاجين إلى خدمة، لاسيما المرضى منهم، ونكون معهم ونرافقهم ونخرج من ذاتنا لنحبّهم ونتضامن معهم، فقط لأنهم يتحملون آلامهم بإيمان ويصبحون شهوداً للمسيح المتألم بيننا.
ونكون بذلك نطبّق تعاليم المسيح الذي يقول لنا: « كل ما فعلتموه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار، فمعي أنا قد فعلتموه» (متى 25/40).
فالعناية بالمرضى والمتألمين والجائعين والعطشى والمظلومين، هي العناية بيسوع المسيح نفسه. وهؤلاء هم الطريق المميزة للّقاء بالمسيح كل يوم ولاستقباله وخدمته؛ وهم طريقنا إلى القداسة.
تعالوا نخدمهم في المحبة، وهو الشعار الذي اتخذته لخدمتي الأسقفية، وكأننا نخدم المسيح نفسه.
تعالوا نطبق، في خدمتنا لهم، شعار مجمعنا الأبرشي، ونحن في السنة الثانية منه، « لنتجدّد ونتقدس بالمسيح على خطى مار يوحنا مارون وآبائنا القديسين». وخدمة المحبة تحظى بحيّز هام من أعمال مجمعنا نظراً إلى ما توليه الكنيسة من أهمية للشأن الأجتماعي.
تعالوا نصلّي معاً إلى الله ليمنحنا، بروحه القدوس وبشفاعة أمه وأمنا العذراء مريم والقديسة رفقا، نعمةَ حكمة القلب لنخدم في المحبة بفرح وسخاء.
إني أتوجه باسمكم إلى العاملين في حقل الرعاية الصحية في نطاق أبرشيتنا- في مستشفى البترون ومستشفى تنورين، وفي المستوصفات والمراكز الطبية ودور الراحة، وإلى المسؤولين عن التنشئة في معهد التمريض في جامعة العائلة المقدسة في البترون- لأشكر الله عن الخدمات والتضحيات التي يقدمونها طالباً من الله أن يباكهم ويقودهم على طريق القداسة.
وأتوجه باسمكم إلى إخوتنا المرضى والمتألمين بالنفس والجسد، وأصلّي معهم قائلاً:
أيها الرب يسوع، إقبل برحمتك وتحنّنك آلامنا وأوجاعنا التي نقدمها كفارةً عن خطايا كثيرة وفظيعة ترتكب بحق الإنسان والإنسانية على أرضنا، الأرض التي باركتَها بولادتك وموتك وقيامتك؛ لعلّنا نساهم، كما ساهمت القديسة رفقا، بتقديس شعبنا وبقيامة وطننا لبنان وأوطاننا في الشرق الأوسط إلى حياة حرّة كريمة تليق بنا جميعاً، نحن أبناء الله. آمين.