عظة المطران خيرالله في قداس عيد مار مارون- كفرحي 9-2-2015

 

عظة المطران منير خيرالله

في قداس عيد مار مارون- الكرسي الأسقفي كفرحي

الاثنين 9/2/2015

 163

يحل علينا عيد أبينا مار مارون هذه السنة في ظروف استثنائية جداً، لكنها ليست المرة الأولى في تاريخ كنيستنا وشعبنا. عيد اليوم يدعونا للعودة إلى الله وإلى الذات لنقوم بفحص ضمير وبفعل توبة صادق ونطلب من الله بشفاعة أبينا مار مارون المغفرة على كل ما نخطئ به أو يُرتكب من خطايا حولنا ونطلب منه القوة والجرأة على مواجهة هذه الظروف الإستثنائية.

مار مارون الذي تجرّد عن العالم وراح يعيش حياة نسكية على قمم جبال قورش، تخلّى عن كل شيء في سبيل أن يتبع المسيح ويطبق تعاليمه في الإنجيل بطريقة صارمة. فوضع روحانية نسكية امتاز فيها في عصره، هو الذي عاش في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس (بين سنة 350 وسنة 410). وكان في كنيسته الأنطاكية يدعو الجميع إلى التتلمذ ليسوع المسيح بهذه الروحانية. عاش الصلاة والصوم والسهر والتقشف والتخلّي عن كلّ ما في هذه الدنيا والزهد فيها، والعمل في الأرض. ثمّ اقترب من الله، فراح الناس يقصدونه ويأتون إليه. فطلب مطرانه تيودوريطس القورشي أن يرسمه كاهناً لكي يقدّم للناس الآتين إليه وهو في حياته النسكية إرشاده وصلواته والأسرار المقدّسة. ترك مار مارون هذه الدنيا ولكنه لم يكن يعرف أنه سيكون له تلاميذ كثيرون، سيكون له شعب على إسمه وسيكون له كنيسة على إسمه وهي الوحيدة في الكنيسة الجامعة التي تحمل إسم قدّيس، الكنيسة المارونية. تلاميذه أتوا أول ما أتوا في أوائل القرن الخامس إلى جبال لبنان، إلى قمم جبال جبيل ثم البترون ثم الجبة حيث كانت المراكز الأساسية للديانة الفينيقية. فحوّلوها إلى كنائس وأديار ترنّم المجد لله والشكر للإبن يسوع المسيح بنعمة الروح القدس. فتحولت كلّ هذه المنطقة وصار شعبها مسيحياً في كنيسة أنطاكية؛ وأطلق عليه إسم « شعب مارون» أو « بيت مارون». إلى أن أتى يوحنا مارون، الذي كان رئيس دير مار مارون على العاصي، الدير الأم لكل أديار سوريا والدير الأول والأهم بينهم، وأصبح مطراناً على البترون التي كانت تضمّ كلّ المسيحيين في هذه المنطقة من جبيل إلى البترون إلى جبة بشري. ثمّ انتُخب بطريركاً في أواخر القرن السابع واختار له مركزاً لبطريركيته هنا في كفرحي، ربّما لوضعها الجغرافي في أواسط أبرشيته البترون. ورعا كنيسته ونظمها على روحانية مار مارون النسكية. فحمل شعب مارون، ببطاركته ومطارنته وكهنته ورهبانه وراهباته ونساكه وعوامه، روحانيته النسكية وراحوا يعيشونها على قمم جبال لبنان، أو في قعر وديانه، وهي نقطة استراتيجية تسمح بالإبتعاد عن العالم والزهد به وبالإقتراب والتواصل المباشر مع الله.

هكذا تميّز أبناء مارون وشعب مارون وكنيسة مارون مدى الأجيال. ثبتوا في إيمانهم وثبتوا في القيم التي تربّوا عليها، القيم الإنجيلية من تعاليم المسيح، وتمسكوا بأرضهم المقدّسة، هذه الأرض الجبلية الصخرية القاحلة التي بعملهم فيها حولوها إلى جنات يعيشون منها بكرامة ورأس مرفوع. كانوا دوما أقلية صغيرة في وسط الامبرطوريات والسلطنات على أنواعها، من البيزنطيين إلى الأمويين إلى العباسيين إلى الصليبيين إلى المماليك وصولاً إلى العثمانيين الذي حكموا الشرق وأكثر الغرب لأربعماية سنة. لم يكن بيدهم سلطة، لكنهم صمدوا بفضل إيمانهم وتعلقهم بأرضهم وبالقيم التي كانت تجمعهم، الوحدة والتضامن والتماسك والطاعة لرأسهم الواحد والأوحد البطريرك. كانوا كلهم حوله فصمدوا في وجه كل التحديات والاضطهادات والاحتلالات والنزوحات والحروب والتهجير.

وكانوا دوماً ينتشرون من شمال لبنان إلى قلب لبنان إلى الجنوب، إلى قبرص، إلى فلسطين، إلى الشرق فإلى الغرب. هذا هو تاريخ شعب مارون.

وفيما نحن اليوم أبناء مارون هنا وفي العالم، واقفون أمام هامة مار مارون التي استعدناها من روما سنة 2000 لنفحص ضميرنا، نتساءل: أين نحن من ثوابت روحانيتنا النسكية؟ أين نحن من تجرّدنا عن العالم وكل مغرياته؟ أين نحن من عيش الصلاة والصوم والسهر والتقشف؟ أين نحن من عيش قيمنا في الوحدة والتضامن والتماسك والتعاون؟ أين نحن من حمل دورنا في لبنان الذي أردناه وطناً لنا جميعاً، نحن وإخوتنا المسيحيين والمسلمين؟ أردناه وطناً رسالة نعيش فيه معاً مسيحيين ومسلمين باحترام متبادل، باحترام تعدديتنا وبالمساواة المواطنية بين بعضنا البعض. أبناء مارون، والبطريرك الياس الحويك على رأسهم مؤخراً عند قيام دولة لبنان الكبير، لم يريدوا لبنان وطناً قومياً للمسيحيين أو للموارنة. أرادوه وطناً للجميع لكي يكون وطناً نموذجاً ورسالة لكل بلدان العالم. نواجه اليوم تحدياً كبيراً وحولنا ستقوم دولة هي وطن قومي لليهود، نحن رفضنا ونرفض ذلك. ربما ستقوم أوطان أخرى قومية طائفية. رفضنا ذلك كل تاريخنا وسنعيد رفضنا لهذا الطرح. فلبنان، نحن نفتخر به وسنفتخر أننا ساهمنا بقيامه، وسنبقى كذلك، لأنه وطن محط عيون الكثيرين من هذا العالم ومواطنيه.

العاصفة التي تعبر اليوم بشرقنا الأوسط وبدولنا هي عاصفة هوجاء، عاصفة التعصب والتطرف الأعمى والحرب باسم الدين والدين منها براء، نحن الموارنة واللبنانيين عموماً مدعوون لأن نواجه هذه العاصفة موحدين متماسكين، مسيحيين ومسلمين، لكي تعبر العاصفة، وستعبر العاصفة، ونحن سنبقى، ورسالتنا ستبقى، ووطننا سيبقى وطنا رسالة. لا تخافوا! لا تخافوا يا أبناء مارون ويا إخوتنا اللبنانيين! نحن أقوياء برئاسات وبدون رئاسات؛ وسنبقى أقوياء بإيماننا بالسيد المسيح، إله الحياة الذي ارتضى أن يموت من أجلنا جميعاً. نحن أقوياء بأبينا القديس مارون، وهو من آباء الكنيسة الجامعة قبل أن يكون هناك انقسام في الكنيسة. نحن أقوياء بإيمان آبائنا وأجدادنا. نحن أقوياء بفضل ثباتنا اليوم بقيمنا وتمسكنا بأرضنا المقدسة، لأنها أرض وقف لله وليست ملكاً لأحد، وستبقى كذلك. فأرضنا ووطننا نحن نتحمل مسؤولية بقائهما واستمراريتهما في هذه الرسالة بالرغم من كل ما يعصف حولنا. لا تخافوا! نحن باقون. ترون حولكم دولاً وأوطاناً تتدمر. هل نعطي أمثالاً من سوريا أو العراق أو ليبيا وغيرها؟ لبنان باق وثابت بفضلنا جميعاً. نحن أبناؤه نريد أن نعيش بحرية وكرامة وبتحمل مسؤولياتنا حتى النهاية، لكي، بعد أن تعبر العاصفة، نعيد معاً بناء وطننا بالمحبة والمصالحة والانفتاح والسلام والاحترام المتبادل والعيش الواحد.

أيها الرب يسوع، نصلي إليك اليوم بشفاعة أبينا مارون، ونتوجه إليك بفعل توبة صادق، لكي تقوّينا على تحمل هذه المحنة. فمارون باق في قلوبنا، باقٍ مثالاً وقدوةً لنا في عيش الروحانية النسكية في القرن الحادي والعشرين. آمين.

 photo Gallery