عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار أنطونيوس الكبير- وطى حوب
السبت 17/1/2015
« ها قد تركنا كلّ شيء وتبعناك، فما عساه يكون لنا». (مرقس 10/28)
الأب الرئيس إخوتي الكهنة: أبونا نبيه (الخوري) وأبونا هاني (مطر) وأبونا اغناطيوس (داغر)،
أحبائي أبناء وبنات حوب وتنورين.
بفرح كبير أعيّد معكم اليوم شفيع هذا الدير، مار أنطونيوس الكبير أب الرهبان الذين يحاولون أن يتشبهوا به، وفي النهاية أن يتشبهوا بالمسيح.
أتوقف اولاً في التأمل حول إنجيل اليوم في حوار يسوع مع سمعان بطرس.
بعدما طلب يسوع من الشاب الغني: « إن أردت أن ترث الحياة الأبدية، إذهب فبعْ ما تملك ووزّعه على الفقراء وتعال فاتبعني»، قام بطرس وقال ليسوع: « ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك، فما عساه يكون لنا ؟» ماذا سنربح؟
أجابه يسوع: « ما من أحد ترك من أجلي ومن أجل البشارة بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً إلاّ ونال في هذه الدنيا مئة ضعف مع الإضطهادات، ونال في الآخرة الحياة الأبدية».
إذا ربحتم الحياة الأبدية تكونون قد ربحتم أنفسكم وكل شيء. منطق يسوع هو منطق جديد يقلب مقاييس البشر: « الأولون يصيرون آخرين، والآخرون يصيرون أولين».
يسوع نفسه، هو الإله، تنازل من ألوهيته وأخلى ذاته ليصير إنساناً مثلنا ويتبنّى بشريتنا الضعيفة ويحمل خطايانا على دروب هذه الأرض حتى الموت على الصليب بهدف أن يعطينا بقيامته الخلاص والحياة الأبدية. وهو يطلب من أتباعه أن يتبنّوا هذا المنطق ويتخلّوا عن كل شيء في هذه الدنيا، لأن كل ما فيها زائل وفانٍ.
هذا المنطق تبنّاه الرسل والتلاميذ والمسيحيون الأولون وشهدوا من خلاله في أيام الإضطهادات. وهو المنطق الذي تبنّاه مار انطونيوس الكبير، فتخلّى عن كل شيء بعد وفاة والديه وهما من عائلة شريفة وغنيّة؛ فأعطى حصة لشقيقته ووزع حصته على الفقراء والكنائس والأديار وراح يختلي في صحراء مصر في حياة توحدية يقضيها في الصلاة والسهر والصوم والتقشف ليوطّد علاقته المباشرة بالله. فبدأ الناس يأتون إليه ليطلبوا شفاعته ويتباركوا منه ويتقربوا بواسطته من أسرار الخلاص. وطلب منه مطرانه، أتناسيوس الاسكندري، عدة مرات أن يأتي إلى الاسكندرية ويعظ المؤمنين في الكنائس ويقوّيهم في زمن الاضطهادات.
وفي عودته إلى الصحراء أسس حياة رهبانية تمتاز بالتوحّد والتخلّي والاقتراب من الله. وكثر تلاميذه، فأسس لهم أدياراً، وراح يزورهم ويشدّ أزرهم. عاش هكذا مئة وخمس سنوات (بين 251 و356).
وقبل وفاته بقليل، كان مار مارون، أبو روحانيتنا النسكية، قد ولد في أنطاكيه (سنة 350)، ثم راح يشق طريقه في التقرب من الله وخدمة كنيسته في حياة توحدية نسكية. فقرر أن يصعد إلى قمم جبال قورش، في سوريا الشمالية، ليعيش قربه من الله وبُعده عن العالم. اختار قمم الجبال ليؤسس لروحانية جديدة تمتاز بالنسك وتسمح له بالعيش، في التخلّي الكامل، بين الأرض والسماء، متشبهاً بالمسيح الذي عُلّق على الصليب بين الأرض والسماء. توفي سنة 410 وكان قد كثر تلاميذه الذين تبنّوا روحانيته. وأتى منهم العديد، وعلى رأسهم ابراهيم القورشي، إلى قمم جبال لبنان بين جبيل والبترون والجبّة، ليعيشوا الروحانية النسكية في التجرّد والصوم والسهر والصلاة، وفي العمل في الأرض، وفي حمل البشارة إلى الناس الذين تقربوا منهم. فشهدوا لإيمانهم بالمسيح ولحبّهم للأرض التي استوطنوها، وهي أرض صخرية قاحلة؛ فعملوا فيها وحولوها إلى جنّات يعتاشون منها بحرية وكرامة ورأس مرفوع.
تجمهر الشعب حولهم وحول كنائسهم وأديارهم، وتبنّى روحانيتهم. إلى أن تأسست كنيستنا المارونية مع مار يوحنا مارون في أواخر القرن السابع. وعاش شعبنا حول الأديار وحول رهبانه ونساكه وبطاركته ومطارنته وكهنته محافظاً على عناصر الروحانية النسكية التي كان وضعها مار مارون، ولبّى فيها دعوة المسيح إلى القداسة، وتقدّس فيها بفضل شهادة رهبانه ونساكه وبطاركته ومطارنته وكهنته.
هكذا عاش آباؤنا بين قمم جبالنا وقعر ودياننا بالفقر والتجرّد، ولكن بحرية وكرامة، متمسكين بإيمانهم ومرتبطين بأرضهم المقدسة وحاملين رسالتهم إلى العالم كله. وهكذا صمدت كنيستنا وحملت رسالتها بنكهة مارونية وانتشر أبناؤها في لبنان والشرق والغرب تجمعهم روحانيتهم وليتورجيتهم وارتباطهم بشخص البطريرك وبلبنان أرض القديسين والوطن الرسالة.
كنيستنا المارونية هذه تجد نفسها اليوم أمام تحدٍّ كبير. وكذلك نحن البطريرك والمطارنة والكهنة والرهبان والراهبات نقف أمام سؤال يطرحه علينا المؤمنون ويدعوننا إلى فحص الضمير:
أين نحن من روحانية مار مارون في كنيستنا ؟ أين نحن من روحانية آبائنا القديسين في مواجهة تحديات عالم اليوم ؟ قُلنا في ترتيلة الدخول: « وَعدُ الأجداد يعطي الأولاد سرّاً يبقى مرمى الآبادِ». أجدادنا وآباؤنا القديسون نقلوا إلينا هذه الرسالة. فماذا نفعل فيها اليوم ؟
نحن المطارنة، وقد لبسنا الإسكيم يوم رسامتنا رمزاً للتجرّد والتخلّي عن مغريات العالم، كيف نقود شعبنا اليوم ؟ وكيف نرعاه ؟ وكيف نسهر عليه ؟
ونحن الرهبان، وقد دعينا إلى القداسة في روحانية آبائنا ونسّاكنا، كيف نلبّي الدعوة اليوم وكيف نحمل رسالة الخلاص في كنيستنا وفي العالم ؟
والإصلاح الرهباني الذي انطلق من وادي قنوبين سنة 1695 ليجدّد الحياة الرهبانية في كنيستنا ويجدّد الرهبان في دعوتهم ورسالتهم، أين نحن منه اليوم ؟
مار أنطونيوس، أبو الرهبان، وجميع قديسينا، يدعوننا اليوم إلى وقفة ضمير ومراجعة الذات وفعل توبة صادق وطلب المغفرة من الله، وإلى الإنطلاق في مسيرة تجدّد يطلبها المجمع البطريركي الماروني، ويطلبها المجمع الأبرشي في البترون الذي نلتزم فيه معاً لخدمة شعبنا وحمل رسالة كنيستنا.
صلاتي معكم اليوم، من هذا الدير بالذات، أرفعها إلى الله، بشفاعة العذراء مريم التي رافقت وترافق مسيرة كنيستنا وشعبنا، وجميع قديسينا، من أجلنا جميعاً، من أجل كل عائلة من عائلاتنا التي عوّدتنا أن تنشّئ قديسين، ومن أجل هذه الرعية الحبيبة تنورين، بما فيها تنورين الفوقا وتنورين التحتا ووطى حوب ووادي تنورين وشاتين، وهي على قمة الجبل تدعونا إلى التسامي والترّفع والترقّي إلى مستوى دعوتنا إلى القداسة. آمين.