عظة المطران منير خيرالله
في قداس التاسع لراحة نفس المطران فرنسيس البيسري
في كاتدرائية مار اسطفان- البترون، الأحد 8/3/2015
إخوتي الكهنة وأخواتي الراهبات،
أحبائي ابناء وبنات رعية البترون،
عائلة المطران فرنسيس.
في الأحد الرابع من مسيرتنا في الصوم الكبير، الأحد الذي تدعونا فيه الكنيسة إلى التأمل بمثل الأب الحنون، بل الأب المطلق الحنان والرحمة والمغفرة والمحبة، نذكر معكم يا أبناء وبنات البترون المطران فرنسيس البيسري الذي كان لكم، ليس فقط طيلة سبع وعشرين سنة خدم فيها رعيتكم لكن أيضاً طيلة خدمته الأسقفية وحتى آخر لحظة من حياته، أباً حنوناً ومحباً.
فبين البترون والمطران- الخوري فرنسيس قصةُ حبٍّ طويلة لا تُختصر ببضع كلمات. فقد خطب نفسه لها ولم يعرف غيرها رعيةً، وأعطى كل ما عنده في سبيل خدمتها.
كتب بعد دخوله الرعية سنة 1964:
« لأول مرة ارتقيتُ فيها درجات مذبح كاتدرائية مار اسطفان، كاتدارئيتي، وقفتُ، وقد شرّفني غبطة البطريرك بولس المعوشي وكلّفني خدمة رعية البترون، رعيتي، خطّيبتي، وقفتُ وقلتُ للبترون وللبترونيين ما قلتهُ لربي يوم رسامتي الكهنوتية: هاكم قلبي للمحبة، ويداي للبركة، وشفتاي للتعليم، وكتفيّ لحمل الصليب». وراح يقدّم قلبه ويديه وشفتيه وفكره ليحبّ ويعلّم ويخدم ويحمل الصليب. أحبّ البترون والبترونيين وعاش ما كانوا يعيشونه في الحلو والمرّ وتماهى معهم وخدمهم بقلبه الكبير، وبشفتيه الناطقتين أبداً ودوماً بالفكاهة والمَرَح، وبلسانه المتفوّه بالكلمات الحلوة. فذلَّلَ الصعاب، وقرّب العائلات، ووحّد القلوب، وأبعد شبح الإنقسام السياسي. فكان مع الجميع أخاً وللجميع أباً. كرّس حياته وكل ما أعطاه الله من عطايا ومواهب لخدمة أبناء رعيته بدون حساب. فكان يقول لهم:
« كاهن رعيتكم، أبوكم، إنما هو الأب والأم. وهل تنسى الأم بنيها ؟ إنه كالأب يحملكم دوماً في قلبه وفي تفكيره وفي ضميره. إنه على مثال المسيح يهب دون خوف من العطاء. وعلى مثال المسيح ما أتى ليُخدم بل ليَخدم. خادم رعيتكم هو خادمكم أبداً ودوماً، وفي أي وقت كان. لا دوام لخدمته، ولا ينتهي وقت الدوام. وعلى أي حال، يطفح السرور من وجهه وهو يقوم بخدمتكم. إنه يصلّي عنكم ومن أجلكم».
وكان معلّماً. بصفته أستاذ الفلسفة في مدارس البترون، جذب تلاميذه بأسلوبه الشيّق وروحه المرحة وحسِّه الرهيف الإنساني والراعوي إلى حبّ الفلسفة وحبّ الحياة وتبنّي القيم المسيحية في التزامهم الكنسي والإجتماعي والوطني. علّم أجيالاً وجميعهم بقوا له مخلصين.
وكان راعياً. أسّس حركة فرسان العذراء ليكونوا باكورة خدمته الراعوية. وشجّع الجمعيات القائمة - جمعية مار منصور وأخوية قلب يسوع وأخوية الميتة الصالحة وأخوية سلطانة البحار وكشافة لبنان- على القيام بدورها الكنسي والإجتماعي وتحمّل مسؤولياتها في خدمة المجتمع.
وكان مدبّراً عمرانياً إذ حقق في خلال خدمته مشاريع كبيرة. منها: ترميم المدرسة وتحويلها إلى بيت للكهنة يليق بهم وبمن يستقبلون ويعيشون فيه معاً حياة مشتركة تشهد للمحبة الأخوية. وترميم الطابق الأرضي ليكون صالة للرعية. وترميم كاتدرائية مار اسطفان من الداخل مع مديرية الآثار.
وجال دول العالم برفقة الأستاذ جوزف عون لتحقيق المشروع الرائد مع جمعية مار منصور، أي بيت الراحة.
وبعد سبع وعشرين سنة، انتُخب مطراناً نائباً بطريركياً على منطقة الجبّة، منطقته، ولكن قلبه بقي للبترون، التي قال فيها:
« كانت البترون رعيتي وحدها. رعيتي الأولى والأخيرة. كانت لي كرْماً فأحببتها وانحنيت عليها وأعطيتها ذاتي وما لديّ. أعطيتها زهرة عمري وأجمل أيامي. نكشتُ أرضها الخصبة ونزعت أعشابها المضرّة فجنيت من عناقيدها الشقراء ما حلا لي. وزرعت في أعماقها كلمة الله عن طريق الزيارات الشخصية أو الخدمة الراعوية والسهرات الإنجيلية».
وبقي وفياً لها، يحبّها ويتردّد عليها وعلى أهلها في كل مناسبة. وبقي لها في قلبه مكانةٌ فريدة ومميزة، حتى النهاية. حتى إنه عندما سمع بالحريق الذي شبّ في سكرستيا كاتدرائية مار اسطفان ليلة الميلاد، منذ شهرين، كان من أول المتّصلين والمتبرّعين لترميمها.
أيها الأب والأخ والمعلّم الراعي،
بترونك التي أحببتها وبادلتك المحبة تفتقدك اليوم بكبارها وصغارها وعائلاتها.
أولادك الفرسان الذين كبروا وأسسوا العائلات وانتشروا في العالم، يفتقدونك اليوم وهم يحضّرون لاحتفالات اليوبيل الذهبي على تأسيسهم. لكنهم مؤمنون، ونحن معهم، أنك ترافقهم من السماء.
ولأني أعرفك جيداً منذ أكثر من أربعين سنة، أتخيّلك تقول لنا بكلمات القديس بولس في رسالة اليوم: « أكتبُ إليكم وأنا غائب، لأقول: أيها الأخوة إفرحوا، واسعَوْا إلى الكمال، وتشجّعوا، وكونوا على رأي واحد، وعيشوا في سلام، وإله المحبة والسلام يكون معكم» (2 قور 13/5-13). وتضيف أخيراً: لا تنسوا أن تطلبوا شفاعة العذراء مريم، أم يسوع وأمنا جميعاً، وأن تتّكلوا عليها. آمين.