عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد القديسة رفقا وختام اليوبيل في دير مار يوسف جربتا
الأحد 22/3/2015
« ماذا تريد أن أصنع لك ؟... رابّوني، أن أبصر» (مرقس 10/51)
حضرة الأب الوكيل
الأم الرئيسة العامة للراهبات اللبنانيات المارونيات
أخواتي رئيسة وراهبات هذا الدير الحبيب
أحبائي جميعاً
في أحد الأعمى وعيد القديسة رفقا، وبين شفاء الأعمى وعَمى رفقا، لنا أمثولة اليوم في سلوك طريق القداسة.
أولاً في شفاء الأعمى. هذا الأعمى الشحاذ المنبوذ من المجتمع الذي كان يعيش على هامش مجتمعه، آمن أن يسوع هو الرب، هو المخلص وهو وحده القادر على أن يشفيه وأن يعيد إليه البصر. تحدّى الناس الذين كانوا يصرخون به ليسكت؛ وراح يزداد صراخاً « يا ابن داود، ارحمني!»، ليس لي سواك، فدعاه يسوع. فوثب وجاء إليه وجثا أمامه. فسأله يسوع:« ماذا تريد أن أصنع لك ؟ رابوي أن أبصر» ما حولي، أن أبصر ما في هذه الدنيا، أن أبصر بإيماني لك إخوتي البشر، كيف يعيشون، وكيف يطبقون إرادتك في حياتهم كلّ يوم. أريد أن أُبصر. فقال له يسوع « إيمانك خلصك» فابصر للحال.
وإذا انتقلنا إلى حياة رفقا، نلاحظ أنها، بعد أن عاشت في رهبنة المريمات في رسالة التعليم والتربية، حتى أنها جاءت إلى هذه المنطقة، إلى معاد، تعلّم خاصة الفتيات، إختارت أن تتوحد، إختارت الحياة النسكية. فراحت إلى قمة دير مار سمعان القرن لتعيش الدعوة النسكية التي تميزت بها كنيستنا المارونية على خطى مار مارون وتلاميذ مار مارون ويوحنا مارون البطريرك الأول. وعلى خطى جميع قدّيسينا، على قمم جبالنا وفي قعر ودياننا. فتنسّكت هناك. إلى أن جاء يوم أحد الوردية، سنة 1885 ووقفت أمام يسوع تصلّي. فقال لها يسوع كما قال للأعمى: « ماذا تريدين أن أصنع لك؟» قالت له: يا ربّ أن أفقد بصري؛ أن لا أبصر بعد اليوم إلا أنت، لأني أريد أن أحمل معك الصليب وأشاركك مسيرة آلامك لكي أربح معك الموت والقيامة. وكنا في زمن يعيش فيه شعبنا ووطننا لبنان في محن وإضطهادات وحروب ومذابح، قضى فيها المئات والآلاف، ووطننا كان يتدمّر، وكنائسنا تُدَكّ، كانت رفقا كما كان شربل وكما كان الحرديني، كانوا يطلبون من يسوع أن يتقدسوا بمشاركته بآلامه، وتقدّسوا. وتقدّست رفقا أيضاً عندما أتت إلى وادي جربتا وبنت هذا الدير مع أخواتها وفيه فقدت بصرها تماماً وتخلّع جسدها، بقي فيها فقط لسانها ورأسها وقلبها يطلبون القداسة، لأنها دعوة كل واحد منا.
أما اليوم، وفيما نحن نعيش ما نعيش من مآسٍ في لبنان وفي بلداننا في الشرق الأوسط، وبينما الحرب والحقد والبغض، والتطرّف والتعصّب يصلون إلى الوحشية والآلاف يموتون ويهجرون وينزحون ويفقدون جنى حياتهم، نحن هنا لنصلّي مع رفقا. لنطلب أولاً كما طلب الأعمى: نريد منك يا ربّ أن نبصر إرادتك؛ يا ابن داود ارحمنا لأنه ليس لنا سواك في هذه الأيام الصعبة؛ ليس لنا سواك مخلّص في أيامنا السوداء. وفيما الكثيرون منا يموتون أو ينزحون أو يُبعدون، أنت لنا وحدك المخلص. يا ابن داود ارحمنا، وأعطنا أن نبصر، أن نبصر بقلبنا وبإيماننا وأن نعرف ما هي إرادتك في حياتنا اليوم، وإرادتك هي أن نبقى دوماً ملح هذا الشرق وخميره.
ومع رفقا نطلب منك يا رب أن نفقد البصر، لأننا لا نريد بعد اليوم أن نرى بعيوننا ما يجري من حولنا من وحشية لا تمتّ إلى الإنسانية وإلى أي دين بصلة أبداً. هذه الوحشية لا نريد يا رب أن نبصرها، أبعِدْها عنا، أفْقِدنْا البصر؛ أعطنا العمى إلا منك لكي نعرف أن نصلّي، وأن نحمل معك الصليب، مهما كلّفنا، وأن نمشي معك في درب الجلجلة؛ لأننا متأكدون أنه بعد درب الجلجلة وبعد الموت على الصليب تنتظرنا القيامة إلى حياة جديدة. نحن واثقون يا رب، وكلّنا رجاء، أنك اليوم ستقوّينا كما قوَّيتَ رفقا وشربل والحرديني وغيرهم الكثيرين، أنك تقوّينا لنصمد ونثبت في إيماننا وثقتنا بك وأن نبقى مرتبطين بأرضنا المقدّسة، وأن نحافظ دوماً على القيم التي تربّينا عليها في عائلاتنا، عائلاتنا المقدّسة التي أعطت وستبقى تعطي قدّيسين وقديسات.
في ختام مئوية القديسة رفقا، وهي إبنة أرضنا، نريد منك أن تفتح أمامنا مئوية جديدة تكون مئوية المحبة والمصالحة والسلام وعودة البناء والإزدهار إلى وطننا، إلى أوطاننا، إلى شعوبنا، فنسير على خطى آبائنا القديسين ونتقدس نحن بدورنا. وهذا هو شعار أبرشيتنا ونحن في مسيرة مجمع أبرشي:« على خطى مار يوحنا مارون وجميع قدّيسينا نحن نتقدس ونتجدّد بالمسيح». آمين.