عظة المطران خيرالله في عيد مار مارون في قطر من 3-5 شباط 2016

 

المطران خيرالله في عيد مار مارون- قطر (3-5 شباط 2016)

بدعوة من الرعية المارونية وعلى رأسها الأب شربل مهنا والجالية اللبنانية في قطر، ترأس سيادة المطران منير خيرالله راعي أبرشية البترون احتفالات عيد مار مارون في قطر من الأربعاء 3 حتى الجمعة 5 شباط 2016.

ومنذ وصول المطران خيرالله إلى الدوحة، الأربعاء 3 شباط، استقبله سعادة سفير لبنان في قطر الأستاذ حسن نجم؛ ثم أقام على شرفه حفل عشاء في دار السفارة اللبنانية ودعا إليه وجهاء الجالية اللبنانية في قطر. ولم يتعجب من ذلك لأن معرفته به تعود إلى سنة 2004 عندما كان قنصل لبنان في ميلانو- إيطاليا. وقد عرفه رجل نبيلاً وكبير النفس، خدوماً للجميع وحاملاً رسالة لبنان الذي يؤمن به وطناً نموذجاً في العيش الواحد. وأصرّ السفير نجم على مرافقة المطران خيرالله في محطات إقامته في قطر. وشكره المطران خيرالله على الجهود التي يقوم بها لخدمة اخوته اللبنانيين وعلى تمثيله لبنان خير تمثيل في دولة قطر.

 

نهار الخميس 4 شباط، التقى المطران خيرالله الشيخ عبدالله بن حمد العطيّة، رئيس مؤسسة عبدالله بن حمد العطيّة للطاقة والتنمية المستدامة ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الطاقة والصناعة سابقاً.

وكان برفقته الأب شربل مهنا والسيدين أحمد الشيخة وجهاد ابي صالح.

وفي خلال اللقاء، اكتشف المطران خيرالله سعة اطّلاع الشيخ عبدالله على تاريخ لبنان وتاريخ الكنيسة فيه لاسيما الكنيسة المارونية وبطاركتها ورجالاتها، وقدّر مدى إلمامه بتاريخ العرب وبدور المسيحيين الثقافي والحضاري والاقتصادي في النهضة العربية وفي أيامنا الراهنة. وشكره على الجهود التي يقوم بها لمساعدة اللبنانيين في قطر والدفاع عن حقوقهم؛ كل ذلك لأنه يؤمن، كما اللبنانيون يؤمنون، أن لبنان هو وطن رسالة كما أراده أبناؤه، مسلمون ومسيحيون، للعيش الواحد في الحرية والديمقراطية واحترام التعددية. كما شكر له دعمه لمشروع بناء كنيسة مار شربل في قطر بكل مستلزماته القانونية والمادية.

ومساءً دعت الرعية المارونية إلى عشائها السنوي الساهر برعاية سعادة سفير لبنان في أوتيل لاسيغال أحيته المطربة نجوى كرم.

 

نهار الجمعة 5 شباط، تراس المطران خيرالله القداس الإلهي في كنيسة سيدة الوردية بحضور سعادة سفير لبنان الأستاذ نجم ووجوه الجالية اللبنانية وأكثر من ألف وخمسماية شخص. وكانت له عظة، نورد نصها فيما يلي.

ثم التقى الجميع بعد القداس إلى غداء قدّمته الرعية المارونية في صالة الكنيسة.

.

عظة المطران منير خيرالله

في احتفال عيد مار مارون في الرعية المارونية في قطر

الجمعة 5 شباط 2016   

210

وفي اليوم التالي ترأس المطران خيرالله الذبيحة الالهية وعاونه فيها كاهن الرعية الخوري شربل مهنا في حضور السفير نجم وحشد من ابناء الجالية.

وبعد الانجيل المقدس، القى المطران خيرالله كلمة قال فيها:

نحتفل هذه السنة بعيد أبينا مار مارون في ظروف إجتماعية واقتصادية وسياسية دقيقة جداً على مستوى منطقتنا الشرق أوسطية والعالم.

ولكننا في بداية سنة الرحمة التي أعلنها قداسة البابا فرنسيس نرى أنفسنا مدعوين للعودة إلى الله وإلى الذات للقيام بفحص ضمير وبفعل توبة صادق يهدف إلى طلب المغفرة من إله الرحمة على كل ما ارتكبنا من أخطاء، وطلب القوة والجرأة على مواجهة العواصف الآتية بإيمان ثابت ورجاء وطيد وفي عيش القيم التي تربيّنا عليها.

كل ما نعرف عن مارون أنه عاش في النصف الثاني من القرن الرابع وأوائل القرن الخامس (350-410)، وأنه كان ناسكاً وكاهناً. تجرّد عن كل شيء في هذه الدنيا وراح يعيش حياةً نسكية على قمم جبال قورش- قرب أنطاكية، وفي العراء ويقضي أوقاته بالصلاة والصوم والتقشف والوقوف المستمرّ، ويجهد في الأعمال اليدوية في الأرض التي عاش عليها. أعطاه الله موهبة شفاء الأمراض الجسدية والنفسية. فتقاطر إليه الناس وتتلمذ الكثيرون على يده. وراح تلاميذه يضاهونه في عيش الروحانية النسكية التي وضعها. ومنهم من بقوا في سوريا وجمعوا الناس حولهم وبنوا الأديار، وكان أكبرُها دير مار مارون على ضفاف العاصي، ومنهم من هجروا إلى جبال لبنان، فسكنوا جرود جبيل والبترون والجبّة، من أجل حمل الرسالة المسيحية وتبشير الفينيقيين ودعوتهم إلى الأيمان بالإله الواحد وتحويل معابدهم إلى كنائس وأديار. وتجمّع حولهم الناس حتى دُعوا « بشعب مارون» أو « ببيت مارون». فبنوا الأديرة وجعلوا منها منارةً لنشر القيم المسيحية والثقافية والعلم. ومع يوحنا مارون أسسوا كنيسة بطريركية، وحافظوا على روحانيتهم النسكية وعلى ثقافتهم وانفتاحهم على الشرق والغرب وعلى حريتهم واستقلاليتهم.

عاشوا في العراء على قمم الجبال، أو في قعر الوديان، وتحمّلوا أشق العذابات في سبيل الحفاظ على حريتهم. وعملوا في أرضهم القاحلة والصخرية فحوّلوها إلى جنّات وتمسّكوا بها وأحبّوها لأنهم تعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم.

كانوا دوماً أقلّيةً صغيرة في وسط الامبراطوريات والسلطنات على أنواعها، من البيزنطيين إلى الأمويين إلى العباسيين إلى الصليبيين إلى المماليك وصولاً إلى العثمانيين الذين حكموا الشرق وأكثر الغرب لأربعماية سنة. لم تكن بيدهم سلطة، لكنهم صمدوا بفضل إيمانهم وتكوكبهم حول رأسهم الواحد والأوحد البطريرك وتعلّقهم بأرضهم وبالقيم التي كانت تجمعهم.

عملوا مع اخوتهم المسيحيين والمسلمين والدروز على تأسيس الكيان اللبناني والذاتية اللبنانية منذ بداية القرن السادس عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر في عهد الإمارتين المعنية والشهابية، وكانوا رواد النهضة العربية. وراحت هذه الذاتية تتبلور فكرياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً في بداية القرن العشرين، إلى أن حصل اللبنانيون بعد الحرب العالمية الأولى على إعلان دولة لبنان الكبير بقيادة البطريرك الكبير الياس الحويك، وفي خلال الحرب العالمية الثانية على الاعتراف باستقلال دولة لبنان جمهوريةً و« دولةً مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة».

في حصيلة هذه المسيرة الطويلة، توصّل الموارنة إلى تحقيق إنجازات كبيرة، يختصرها العلاّمة الأب يواكيم مبارك بخمسة:

-    الإنجاز الأول: هو نشوء كنيسة ونموّها وازدهارها حول رأسها البطريرك، ضمن نطاق الدولة الإسلاميّة، في حين أن كنائس أخرى، القديمة منها والكبرى، كانت تتقلّص في ديار الإسلام، أو تخضع له طوعاً أو كرهاً، أو تناصبه العداء دون نتيجة حاسمة إلاّ على حسابها.

-    الإنجاز الثاني: هو إستقلاليّة هذه الكنيسة تدريجيّاً ضمن الدولة الإسلاميّة، وتكريس هذه الإستقلاليّة، في النهاية، ضمن استقلال الدولة عن الإسلام ولكن ليس عن المسلمين. وهو إنجاز تاريخيّ لا مثيل له.

-    الإنجاز الثالث، الموازي للإنجاز الوطنيّ: هو تكوين المجتمع اللبنانيّ بوصفه مجتمعاً مدنيّاً متعدّد الفئات الدينيّة، يخدمها ولكنّه لا يخضع لأحكامها إلاّ في حقول معيّنة.

-    الإنجاز الرابع: هو أن الموارنة لم يمارسوا الرسالة بوصفها التبشيريّ الحديث، ولكنّهم حقّقوا إنجازاً في تاريخ العلاقات المسيحية الإسلامية.

-    الإنجاز الخامس: هو الإنجاز الثقافيّ. فالموارنة هم في العصور الحديثة ورثة الاستعراب الثقافي على رفضٍ قاطع للاندماج والضياع في العروبة السياسية. وهذا ما نعتبره مثالياً في مصير الثقافة العالمي. ونذكّر أن العمل الاستعرابيّ الأوّل في لقاء النصرانيّة والإسلام يشمل الأعمال الكبرى التي تمثّل رقيّ العرب ووصولهم إلى المستوى العالميّ للثقافة بوساطة النصارى الذين نقلوا أعمال الإغريق، العلميّة منها والفلسفيّة، إلى السريانيّة ومنها إلى العربيّة.

أمّا اليوم، وفيما أبناء مارون يعيّدون لأبيهم الروحيّ وهم منتشرون في العالم كلّه، وأنتم منهم يا أحبّاءَنا في قطر، وفيما إخوتهم المسيحيّون العرب يعانون من هجرة قاسية «تُعرِّضُ العالم العربيّ لنزيفٍ بشريّ وإجتماعيّ وثقافيّ وسياسيّ وإقتصاديّ على جانب كبير من الخطورة»، كما نبّه الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود منذ أربع عشرة سنة بالتمام في كلمة كتبها في جريدة النهار اللبنانيّة في 29/1/2002، نتساءل إلى أين المصير؟

يقول الأمير طلال في كلمته الشهيرة:

« شكّل العرب المسيحيّون إحدى ركائز البناء العربيّ القديم والحديث على السواء. ففي فجر الإسلام كانوا ركناً ثقافيّاً وسياسيّاً وعسكريّاً من الدولة العربيّة التي توسّعت شرقاً وغرباً... وفي عصر النهضة لم يغب العرب المسيحيّون عن دورهم في إعادة إحياء معالم العروبة ومضمونها الحضاريّ الجامع والمنفتح على الحضارات الأخرى الناهضة في مراحل التراجع العربيّ؛ وشكّلوا حلقة وصل واتصال وعمقاً ثقافيّاً أصيلاً في العروبة ومتقدِّماً في العصرنة والحداثة. بقاؤهم في العالم العربيّ يمنع قيام بيئة تفترش التعصّب والتطرّف، وبالتالي العنفَ المؤدّي إلى كوارث تاريخيّة».

الكوارث التاريخيّة تحصل اليوم في بلداننا العربيّة والشرق أوسطيّة: في سوريا ولبنان والعراق والأردن ومصر وفلسطين. فهل نبقى متفرّجين؟ ما هو دورنا إذًا؟

إنطلاقًا من روحانيّتنا النّسكيّة ومن ثوابت تاريخنا:

علينا أوّلاً أن نعود إلى عبادة الله بإيمان وثقة، وإلى الإصغاء إلى كلمته وسماع صوته يدعونا إلى فعل توبة صادق، فنتغلّب على الخوف والقلق اللذَين يسكنان فينا، وننطلق بحرّيّة وجرأة ورجاء في رسالة أمميّة متجدِّدة.

علينا ثانيًا أن نتبنّى موقف الحقّ الذي لا يساوم ولا يراوغ؛ فنكون أنبياء لا جبناء، نرفع الصوت عاليًا في وجه فاعلي الشرّ، للدفاع عن حقّ كلّ إنسان في عيشٍ كريم، وعن الشعوب في تقرير مصيرها.  

علينا ثالثًا أن نتمسّك بأرضنا المقدّسة. إنّها الأرض التي اختارها ابن الله ربّنا وسيّدنا يسوع المسيح، ليدخل من خلالها في التاريخ والجغرافيا، فيولد فيها إنسانًا ويعيش عليها ويموت عليها مصلوبًا، فداءً عن جميع البشر وحبًّا بهم.

علينا أخيرًا أن نبقى حلقةَ وصلٍ واتّصال، وقيمةً ثقافيّة وحضاريّة لشعوبنا ولبلداننا؛ فنعمل مع إخوتنا المسلمين، كما عملنا طوال مئات السنوات، على إعادة بناء لبنان في دعوته التاريخيّة، أي الوطن الرسالة في الحرّيّة والعيش الواحد المشترك، في احترام تعدّديّة الطوائف والأديان والحضارات والثقافات. ونحن قادرون على ذلك، كما يقول سفيرنا في الكويت الدكتور خضر حلوة: « المسؤولية تقع على عاتق الجميع، وأولهم موارنة لبنان الذين أسسوا لبلدٍ فريد في منطقة عربية عرفت دولُها قيمة هذا البلد الصغير المساحة والكبير الدور... فإذا كان المسيحيون هم ملحُ الأرض في المنطقة العربية، فالموارنة هم ملح أرض لبنان. فهم أبناء القديس مارون، وحملة إرث يوحنا مارون، ممن لديهم الإرادة الصلبة والانتماء القوي لوطن تعدّدي، منفتحٍ مثلما هم منفتحون، ومتميّز مثلما هم متميزون». (راجع كلمته في احتفال عيد مار مارون في الكويت، 7/2/2014).

إننا نجدّد اليوم، كأبناء مارون وككنيسة مارونيّة وعلى رأسها البطريرك مار بشاره بطرس الراعي، انتماءنا إلى كنيستنا الأنطاكيّة وإلى محيطنا الطبيعيّ في العالمَين العربيّ والإسلاميّ، ونجدّد ولاءَنا لأوطانِنا ونحن فيها مواطنون أصليّون.

ونؤكّد أننا ننشد الحريّة لنا ولغيرنا من الشعوب ضمن احترام التعدّدية الدينيّة والثقافيّة والحضاريّة التي تميّزنا، ونجدّد انفتاحنا على الغرب وثقافته واتّحادنا مع الكنيسة الرومانيّة الممثَّلة بالكرسيّ البطرسيّ وبالجالس عليه اليوم البابا فرنسيس.

نتضرّع إليك يا ألله ونرفع صلواتنا طالبين، بشفاعة مريم والدة الإله وجميع قدّيسينا، أن يكون عيدُ مار مارون انتصارًا للمحبّة والأخوّة والسلام في سوريا ولبنان والعراق والأردن ومصر وفلسطين، وكلِّ بلداننا العربيّة والشرق أوسطيّة. ونحن لسنا خائفين، لأنك معنا يا رب باقٍ إلى أبد الآبدين. آمين


وبعد القداس، التقى المطران خيرالله ابناء الجالية في صالون الكنيسة.

عشاء الرعية

من جهة ثانية، اقامت الرعية المارونية في قطر عشائها السنوي برعاية السفير نجم وبمشاركة المطران خيرالله واحيته المطربة نجوى كرم.

Photo Gallery