قداس عيد مار شينا- حدرين 15-9-2016

 

كلمة المطران منير خيرالله

في قداس عيد مار شينا والزيارة الرعائية لحردين التي انتهت بالعشاء القروي

حردين في 15/9/2016

232 

« لا تخافوا! هاءنذا معكم طوال الأيام وإلى نهاية العالم» (متى 28/20).

 

إخوتي كهنة حردين، أبونا دانيال وأبونا يوسف وأبونا برنارد

أحبّائي جميعًا أبناء وبنات حردين الحبيبة التي تحمل تاريخًا وتراثًا كنسيًّا وإجتماعيًّا وثقافيًّا ووطنيًّا كبيرًا.

 

إنها المرة الأولى التي أحتفل بها معكم بعيد شفيعكم مار أبراميوس الملقّب بشينا المعترف، شفيع هذه الرعيّة المارونيّة الرهبانيّة. أفتخر بوجودي بينكم اليوم فأنتم دائمًا مصدر فرح ورجاء لما تحملونه من المحبّة والأمانة للكنيسة. فما يجمعنا اليوم في عيد القديس شينا هي الدعوة إلى وقفة ضمير دعوة إلى العودة إلى الذات وإلى ربنا وإلى تاريخنا وتراث كنيستنا وشعبنا.

في حردين، نقف أمام الله وأمام التاريخ، أما الله لنمجّده ونشكره وأمام التاريخ لنأخذ منه العِبَر. فأهل حردين وعلى مئات السنوات كانوا مثالًا لتلبية دعوة الله إلى القداسة. الله يدعونا جميعًا إلى القداسة ولكنه يدعو البعض منا دعوة خاصة ومميزة. وأنتم في حردين من هؤلاء المدعوين هذه الدعوة الخاصة إلى القداسة. أجدادنا وآباؤنا لبّوا هذه الدعوة وعاشوا بحسب تعاليم المسيح في الإنجيل وبحسب روحانيّة مار مارون أبينا. هذه الروحانيّة النسكيّة، التي امتازت بها الكنيسة المارونيّة، نقلها تلاميذ مار مارون إلى قمم جبال جبيل والبترون والجبّة، ونذكر طبعًا تنورين وحردين.عاشوا هذه الروحانيّة كما عاشها النسّاك والرهبان بوفاء وإخلاص.

تمتاز روحانيّة مار مارون ببعديها العمودي والأفقي. البعد العمودي وهو العلاقة المباشرة مع الله. لذا اختار مار مارون وتلاميذه قمم الجبال رمزًا للقرب من الله. فعلى قمّة الجبل كانوا يشعرون بقربهم من الله وبالتالي يبتعدون عن العالم دون أن يخرجوا منه. لقد فهموا ما قاله يسوع لتلاميذه: « أنتم في العالم ولكنّكم لستم من العالم» (يو 15/19). على قمم الجبال عاشوا في العراء بالتقشّف والتجرّد والفقر. لم يطلبوا شيئًا من ملذّات الدنيا ومن ممتلكاتها أو من سلطناتها. هذه هي الروحانيّة النسكيّة التي حافظوا عليها على مدى الأجيال حتّى يومنا هذا. هذه الروحانيّة لم تكن مُقتصرة على الكنائس والأديار انما عاشتها كلّ عائلة.

أمّا البعد الثاني، وهو البعد الأفقيّ، فنتميّز بعلاقة المحبة والتضامن مع الآخر. فكما جاء يسوع إلى العالم (يو 16/28) كذلك فهموا أنّهم مدعوون إلى أن يكونوا في العالم. مار مارون وتلاميذه عاشوا روحانيّتهم بقربهم من بعضهم البعض. عاشوا في المحبّة والوحدة والتضامن وثبتوا فيها وعملوا بتعاليم المسيح. عاشوا رسالتهم بانفتاح على الجميع فأصبحوا رسل محبّة ومصالحة ورسل علم وثقافة. هذا ما ساعدهم طوال مئات السنوات على أن يثبتوا في وجه كلّ العواصف من اضطهادات وقتل وتشريد ودمار. وارتباطهم بالأرض، وهو الشق الثاني من البعد الأفقيّ، كان من أسس الروحانيّة النسكيّة. هذه الأرض الجبليّة الصخريّة القاحلة حوّلوها إلى جنّات وحافظوا عليها. عاشوا فيها بحريّة وكرامة مرفوعي الرأس لأنّهم اتكلوا على الله وليس على سلاطين هذا العالم. ساروا في موكب النصر الدائم بالمسيح ناشرين عبير معرفة الرّبّ ورائحة الحياة المحيية (2كور2/14-17). ما جعلهم يثبتون ويصمدون في علاقاتهم مع الآخرين وبالأرض التي تعبوا فيها وسقوها من عرق جبينهم مع كلّ ضربة معدور وسقوها من دمهم عندما قدموا حياتهم من أجل الشهادة والاستشهاد.

عاشوا الروحانيّة النسكيّة بثوابتها الثلاثة: الإيمان بالله، المعول للعمل في الأرض، والثقافة والعلم للإنفتاح على العالم. هذا ما سمح لهم أن ينتشروا في بلدان العالم وأن ينقلوا روحانيّتهم. آباؤنا وأبناؤنا، ومنهم أبناء حردين، الذين تعلّموا تحت السنديانة، انتشروا في العالم ونشروا العلم والثقافة وكانوا بارعين ومبدعين. في القرنين السادس عشر والسابع عشر، بعد المدرسة المارونيّة في روما، قيل فيهم: « عالِم كماروني»، بحيث أنّهم اشتهروا بمهاراتهم العلميّة والثقافيّة. هم الذين تعلّموا وتربوا تحت السنديانة على هذه الأرض المقدسة أصبحوا منارة للعلم والثقافة في العالم كلّه.

هذا هو تاريخ حردين. فأبناؤك اليوم يا حردين منتشرون في العالم من أستراليا إلى الولايات المتحدة الأميركيّة حاملين في قلوبهم القيم التي تربّوا عليها والثوابت الثلاثة التي ميّزت كنيستهم. وهي الثوابت نفسها التي جعلت من البطريرك الياس الحويّك، وباسم جميع اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، يطلب إعلان دولة لبنان الكبير. فأبناء مارون كانوا ولا زالوا كبارًا ولن يرضوا بلبنان إلا كبيرًا.

أما نحن اليوم، في وقفة ضمير وفعل توبة أمام الرّبّ، نتساءل: أين أبناء مارون الكبار من لبنان الكبير؟ هل يا ترى أصبحنا صغارًا لنصغّر لبنان على قياس كلّ واحد منّا؟ لا لن نقبل بذلك. لبنان الكبير سيبقى كبيرًا في كلّ واحد منّا. ومن لا يريد ذلك، سنقبله حتّى ولو لم يفهم من نحن وما هو تاريخنا وما هو إيماننا.

لا تخافوا! مار شينا، الذي كان رئيسًا على جماعة من اللّصوص وأصبح راهبًا وكرّس حياته للرّبّ، يعلّمنا الليلة أن العالم، بكلّ ما فيه اليوم من حروب وكراهيّة وحقد وبغض وتطرّف وتعصّب، سيتحوّل بنعمة الرّبّ يسوع وبقوّة الروح إلى عالم يعيش المحبّة والسلام. واليوم شعبنا قادر أن يتحوّل إلى المسيح ويعيش المحبّة والسلام. إطمئنوا! إطمئنوا علينا وعلى أولادنا وعلى مستقبلنا ومستقبل أولادنا. لا تخافوا! نحن أقوياء واليوم أقوى من أيّ يوم في تاريخنا. مهما حدث ومهما قست علينا الأيام فنحن أقوياء بإيماننا وارتباطنا بأرضنا المقدسة وبحبنا واحترامنا للإنسان. لا تخافوا! سوف نبقى هنا رسل المسيح على أرض المسيح، رسل الله على أرض الله (2كور 2/17ب). آمين.

Photo Gallery