عظة المطران منير خيرالله
في ليلة عيد مار ساسين في كنيسة مار ساسين - البترون 14/9/2016
« من تراه الوكيل الأمين الحكيم» (لو 12/42)
إخوتي أبونا بيار وأبونا فرنسوا
أحبّائي جميعًا أبناء وبنات رعيّة البترون وجميع من أتوا ليشاركونا في عيد مار ساسين
يوم عيد ارتفاع الصليب نجتمع معًا في هذا المكان المقدس لنحتفل بعيد أحد الأساقفة الكبار في الكنيسة من القرن الرابع القديس الشهيد ساسين، أسقف كوزيكس وقرب الكنيسة المكرّسة على اسمه منذ مئات السنوات.
في قراءة إنجيل اليوم، إنجيل الوكيل الأمين الحكيم، يتوجّه يسوع إلى الذين أوكلهم خدمة شعبه ورعايته، أي إلى الرسل وخلفائهم الأساقفة ورعاة الكنيسة منذ تأسيسها حتى اليوم وإلى ما شاء الله. تشبّه القديس ساسين بمانح الوكالة، السيّد المسيح، وعمل على خدمة ورعاية شعب الله الموكل اليه بالمحبّة وبذل الذات. فكان مثالًا يُقتدى به خاصة في الثبات على الإيمان والرجاء في وجه كلّ الهرطقات والصعوبات والإضطهادات.
يقول التقليد الكنسي عن القديس ساسين أنّه رفض عبادة الأوثان كما أمره والي كوزيكس. بقي ثابتًا على إيمانه بالرّبّ يسوع المسيح وأخذ يبيّنُ فساد العبادة الوثنية وخرافاتها ويشهد أنّ الديانة المسيحيّة هي الديانة الحقة. فأنزل الوالي به أشدّ العقوبات من جلد وضرب وألقي في السجن مغلّلاً بقيود من حديد. ولكنّ كلّ ذلك كان يزيده إيمانًا وصلابة ولم يخفه أو يبعده عن البشارة والتعليم والخدمة والرعاية. وفي أيّام الملك قسطنطين الكبير، ابن القديسة هيلانة، الذي انتصر سنة 312 وحرّر الامبراطورية الرومانية من الاضطهادات رافعًا الصليب علامة الإنتصار، أُطلق سراح القديس ساسين وأعيد إلى كرسيه الأسقفي وزاول خدمته في رعاية شعب الله. وبقي حتى آخر لحظة من حياته يشهد للمحبّة ويجسّدها بالتضحية والعطاء. عاش مع شعبه كواحد منهم مشاركًا آلامهم وهمومهم وصعوباتهم ومحنهم والاضطهادات. وكان ساسين من أهم رجالات الكنيسة بحيث أنّه شارك في أوّل مجمع مسكوني عقدته الكنيسة وهو مجمع نيقيه (سنة 325) الذي تزامن انعقاده مع ظهور عدّة هرطقات وربما أهمّها الآريوسيّة التي شكّكت بطبيعة المسيح الإلهيّة. أصدر المجمع قانون الإيمان النيقاوي، الذي قُبِل من الكنيسة كقانون يحدد الإيمان القويم بشأن ألوهية المسيح، مستعملاً التعبير « مساوٍ للآب في الجوهر». غير أنّ الاضطهادات لم تتوقّف حتّى بعد قسطنطين الملك. وسنة 328 ألقى غالايوس، عدو قسطنطين والمسيحين، القبض على ساسين وأمر بتعذيبه حتى انتهت حياته بقطع رأسه.
نلاحظ اليوم، وبعد حوالي 1700 سنة على استشهاد القديس ساسين، أن كنيستنا وأرضنا وشعبنا، وهذه حال الشرق كلّه، لا زالوا يتعرّضون لمحن كبيرة واضطهادات وصعوبات وآلام ودمار وقتل وتهجير ونزوح. ولكن، لا تخافوا، حتى ولو خسرنا كلّ شيء، لا يمكن لأحد أن يسلب منّا الكنز الأكبر وهو إيماننا ورجاؤنا بالمسيح الحاضر دائمًا وأبدًا معنا. وبفضل رعاتنا الساهرين دائمًا على وكالتهم بكلّ أمانة، والمحافظين على الوديعة التي ائتمنوا عليها، كجنود صالحين للمسيح يسوع، لا خوف على كنيستنا. نعم أقول لكم وأكرّر: لا تخافوا! الله معنا. فمن علينا! يدعونا المسيح اليوم كما دعا تلاميذه إلى عدم الخوف؛ فهو دائمًا معنا. الرسل والتلاميذ ورعاة الكنيسة آمنوا بكلمة المسيح وعملوا بها. هذا ما جعلهم يبقون أحياء في الكنيسة حتّى اليوم، ومن بينهم مار ساسين. لأنهم تشبّهوا بالقائم من الموت وضحوا بحياتهم فداء عن شعب الله وكنيسته.
نحن اليوم مجتمعين في كنيسة تحمل اسم القديس ساسين كعادتنا السنويّة لنجدّد إيماننا بالرب يسوع وبأنّنا باقون ولن نخاف سلاطين الظلمة الذين سيزولون كما زال من سبقهم. مهما اشتدّت الصعوبات فبالمسيح ننتصر ونقوم من جديد أقوياء وشهودًا للمحبّة والمصالحة. نحن مجتمعون في هذه الافخارستيا حول مذبح الرب لكي نشهد أن جميع الذين استشهدوا في سبيل الحقّ ما زالوا أحياء في قلوبنا وفي ذاكرة الكنيسة، إذ أن أسماءهم قد كُتبت في السماء في سفر الحياة. في كنيستنا المارونيّة كثيرون من بطاركة وأساقفة وكهنة ونسّاك ورهبان وراهبات وآباء وأمهات استشهدوا في سبيل الحفاظ على إيمانهم. وقد ثبتت كنيستنا بفضلهم. نعم بفضل شفاعة هؤلاء نحن اليوم هنا واقفين لنعلن إيماننا بربّ الحياة، بالرغم من كلّ ما مرّ علينا خلال مئات السنوات. لقد وقفوا في وجه كلّ الممالك والإمبرطوريّات والسلطنات والقوى العسكرية التي اجتاحت أرضنا المقدسّة وأشبعتها دمارًا وقتلًا وتهجيرًا. كلها زالت وانتهت، ونحن بقينا صامدين وواقفين لنعلن إيماننا. إطمئنّوا! نحن أقوياء بقوّة الله الذي يقوّينا. لا تخافوا من الغد ومن صعوباته ولا تهتمّوا بالمستقبل. فطالما نحن ثابتون في إيماننا ورجائنا بالله وواضعين ثقتنا فيه، لا خوف علينا. يا اخوتي، لن نأخذ معنا شيئًا عندما نغادر هذه الارض، لا مال ولا ممتلكات ولا أراضي. القوى العظمى تسيطر اليوم على العالم من خلال المال وتشابك المصالح وزرع الفتن. ولكن كلّ ذلك إلى زوال ونحن باقون. فالله معنا ويسوع دائمًا حاضر إلى جانبنا ويباركنا ويقوّينا بنعمة روحه القدّوس وبشفاعة أمّه وأمنا العذراء مريم، جميع القديسين الذين سبقونا وتقدسوا على هذه الارض ما زالوا يشفعون فينا. اطمئنوا!
تعالوا نرفع صلاتنا إلى الله، في عيد ارتفاع الصليب، علامة المجد لكل مسيحي، بشفاعة مار ساسين وجميع قديسينا والعذراء مريم من أجل بعضنا البعض، من أجل عائلاتنا كي تبقى عائلات مباركة ومقدسة، من أجل كنيستنا ورعاتها كي يكونوا الوكلاء الأمينين فيبذلوا ذواتهم في خدمة شعب الله ولخلاصه.
تعالوا نشكر الله على رعاتنا الشهداء والقديسين ونطلب منه أن يمنحنا أمثالهم لتقديس شعبنا ولثبات كنيسة المسيح على أرض المسيح. آمين.