عظة المطران منير خيراالله
في قداس ليلة عيد القديسة تقلا،
سمار جبيل، في 23/9/2016
« ها أنا أرسلكم كالخراف بين الذئاب» (متى 10/16).
أبونا إيلي خادم هذه الرعيّة الحبيبة والقريبة
أحبّائي جميعًا.
نلتقي اليوم لنحتفل معًا بعيد القديسة تقلا التي هي أولى الشهيدات في الكنيسة وشفيعة هذه الرعيّة مع مار نوهرا. فبين القديسة تقلا والقديس نهرا، الشهيد والمعلّم في الكنيسة، تحتفل سمارجبيل بعيد الشهادة للمسيح وتُجدّد إيمانَها بالرّبّ يسوع.
القديسة تقلا كانت صبيّة عندما بدأت تتعلّم على يد القديس بولس في مدينتها إيقونيا وتحوّلت من الوثنيّة إلى المسيحيّة. تركت كلّ شي شيء في عائلتها وهي عائلة شريفة غنيّة جدًا، تركت كلّ مجد هذه الدنيا لتتبع المسسيح وتسمع تعاليمه من القديس بولس. إلى أن أرادت ان تكرّس ذاتها لله وتقدم ذاتها في سبيل إيمانها بالمسيح. وماتت شهيدة في الكنيسة، كنيسة المسيح التي كانت بدأت تنتشر بعد أورشليم والجليل وساحل لبنان واليونان إلى روما عاصمة الإمبرطوريّة. انتشرت المسيحيّة في خضمّ الإضطهادات وكان أتباع المسيح، تلاميذه ورسله، يستشهدون في سبيل إيمانهم وهم الذين انتصروا لأن الإمبرطوريّة الرومانيّة بعد ثلاث مئة سنة ارتدّت إلى الديانة المسيحيّة وراحت تعلن إيمانها بالمسيح المصلوب من أجل فداء العالم. وكان الصليب علامةً للإمبرطور قسطنطين، وبالصليب انتصر. وبالصليب انتصر أتباع المسيح. وكان القديس بولس يردّد:« لا نريد أن نعلن ونشهد المسيح الّا مصلوبًا» (راجع 1كور 1/23). فالصليب هو قمّة المحبّة في المسيحيّة؛ لأن المسيح ابن الله شاء أن يبذل ذاته وأن يموت على الصليب لكي يظهر محبّة الله الآب لجميع البشر فيخلّصهم بموته وقيامته. وهكذا جاء القديس نوهرا بعد أكثر من ثلاثمئة سنة ليستشهد هو أيضًا ويشهد بإيمانه للمسيح. وأصبحت أرضنا، بشعبها وبكنيستها وبعائلاتها شاهدة وشهيدة للمسيح. ولا زلنا حتّى اليوم نسمع ما قاله المسيح لرسله وتلاميذه: « أرسلكم كالخراف بين الذئاب... انتبهوا... سيسلّمونكم إلى المحاكم، ويجلدونكم في المجامع، ويسوقونكم إلى الحكّام» (متى 10/16-18) كما حكموا على الرسل والتلاميذ والقديسة تقلا ومار نوهرا والكثيرين بعدهم في كنيسة المسيح. والمسيح يقول لنا: لا تخافوا! أنا معكم. سأعطيكم الجرأة على مواجهة الذئاب في العالم. والذئاب لا زالت حتّى اليوم وستبقى ربما تهدّد من يتبع المسيح ومن يسمع كلامه ومن يتغذّى به ويعيش منه. لكنّنا تعوّدنا من مسيرة تاريخنا، تاريخ كنيستنا وشعبنا، أن نواجه كلّ هذه التحديات، ونواجه الذئاب والشرير والأشرار، بإيماننا وثقتنا بالله. فالمسيح يدعونا دائمًا إلى الشجاعة والثقة به فهو غلب العالم (يو 16/33). تعوّدنا أن نواجههم بالمحبّة والمغفرة. لم نتعوّد الخوف. أجدادنا وآباؤنا الذين عاشوا على هذه الأرض وشهدوا للمسيح عليها وتقدسوا عليها لم يخافوا ولم يعرفوا الخوف يومًا. عاشوا بحريّة وكرامة وعاشوا بعلاقة مباشرة مع الله وتقدسوا. وهم اليوم يدعوننا إلى أن نتابع هذه الشهادة ونتابع عيشنا على أرضنا مهما قست علينا الأيام ومهما كثر الأشرار والذئاب. سنبقى متمسكين بإيماننا وثقتنا بالله؛ سنبقى مرتبطين بأرضنا المقدسة لأننا عليها نحن أيضًا نتقدّس، فإنّها أرض قداسة وقديسين. سنبقى متمسكين بالقيم التي تربّينا عليها في عائلاتنا المباركة والقديسة التي أعطت قديسين وقديسات. ونحن هنا جيران القديسن بين جربتا وكفيفان وعنايا.
لا تخافوا اذًا! سنبقى نواجه الذئاب؛ وذئاب هذا العالم تحاربنا من كلّ صوب وعلى كلّ المستويات، دينيّا وإجتماعيّا واقتصاديًا وسياسيًا. لكننا سنبقى خراف المسيح وسنواجه الذئاب بإيماننا. لا تخافوا! نحن أقوياء بتاريخ كنيستنا وقديسينا وقديساتنا؛ ونحن أقوياء بكلّ واحد وواحدة منكم. إبقوا معنا على أرضنا وفي كننائسنا وفي عائلاتنا شهودًا للمسيح؛ فالمسيح حاضر معنا اليوم وكلّ يوم وإلى منتهى الدهر (متى 28/20). وقديسونا سيشفعون بنا من السماء لكي نقوى على هذه العاصفة التي تمرّ علينا اليوم ومنذ واحد وأربعين سنة. والحرب ابتدأت في لبنان ولم تنتهي بعد؛ بل انتشرت على كلّ بلدان الشرق الأوسط من حولنا. إنها نار تأكل وتدمّر كلّ شيء؛ إنّها نار الحقد والغضب والتعصّب والتطرّف والمصالح الإقتصاديّة والسياسيّة لكلّ قوى العالم. ولكنّنا لا نخافها فنحن أقوى منها؛ مهما فعلت بنا وفعلت بأرضنا وشعبنا نحن لا نخافها لأنّها ستعبر أمّا نحن فباقون. والبرهان أنّنا هنا اليوم أمام هذه الكنيسة الصغيرة نشهد مع القديسة تقلا أنّنا شهود للمسيح ورسل له بالمحبّة والمصالحة والسلام والانفتاح على العالم كلّه. إنّنا سنبقى نحترم كلّ مواطن يعيش معنا على أرضنا اللبنانيّة. فلبنان الذي بنيناه معًا، مسيحيين ومسلمين، سيبقى وطن رسالة للعالم كلّه ولكلّ بلدان العالم. وسيبقى وطن رسالة للقوى العظمى في العالم ولكلّ قوى الشرّ، وذلك بفضلنا جميعًا وبفضل وحدتنا وتضامننا وإيماننا. نعم، لبنان سيبقى رسالة في المحبّة والسلام والإنفتاح والعيش الواحد واحترام التعدديّة تعدديّة الديانات والطوائف والثقافات والحضارات. هذا هو لبنان بفضل قديسيه وبفضلنا جميعًا.
تعالوا نقدم اليوم قداسنا وصلواتنا من أجل جميع الذين سبقونا إلى الملكوت، شهداء وآباء وأمّهات وقديسين. ونقدّم صلواتنا من أجل بعضنا البعض. من أجل من يضطهدنا لكي يرجع إلى ضميره ويرتدّ إلى الإيمان الصحيح. من أجل مسؤولينا في الوطن والدولة ومؤسّساتها لكي يعودوا هم أيضًا إلى ضميرهم وتحمّل مسؤوليّاتهم فنبني معًا دولتنا ومؤسّساتها ووطننا من جديد. آمين.