دفن الأستاذ جورج يوسف ضو- البترون في 25-9-2018

 

عظة المطران منير خيرالله

في دفن الأستاذ جورج يوسف ضو

كاتدرائية مار اسطفان البترون، 25/9/2018

 

« أنتم الان أنقياء بفضل الكلام الذي قلته لكم» (يوحنا 15/3).

 

إخوتي الكهنة أخواتي الراهبات،

أصحاب المعالي الوزراء وأصحاب السعادة النواب وممثليهم،

نقابة المحامين، أيها الأحباء،

آل الفقيد الأعزاء.

 303

        بدمعةٍ في العين وبرجاءٍ مسيحي لا يُخِّيب، نصلّي معًا اليوم في وداع أحد أغصان الكرمة المسيحية في أرضنا البترونية المقدسة، الأستاذ جورج ضو، ونسمع، من فم المعلّم الأوحد يسوع المسيح، كلمةَ الله التي تنقّينا وتقدسنا.

لا يستطيع الغصن أن يثمر من تلقاء ذاته، يقول السيد المسيح، إن لم يثبت في الكرمة. والغصن الذي لا أصل له ولا يتغذى من أصول الكرمة ييبس ويلقى في النار فيحترق.

« أنا الكرمة وأنتم الأغصان، يقول لنا المعلّم. أثبتوا فيّ وأنا أثبت فيكم. إذا ثبتّم فيّ وثَبَتَ كلامي فيكم فاسألوا ما شئتم يكُنْ لكم. بهذا يُمجَّدُ أبي أن تحملوا ثمرًا كثيرًا وتصيروا لي تلاميذ».

آمن الأستاذ جورج بهذا الكلام وجاهد ليَثْبُتَ في الكرمة الحقيقية يسوع المسيح فيثمر في المواهب التي منحه الله إياها، وليكون وفيًا لأصوله المسيحية وأصوله العائلية في انفتاحٍ كامل على جميع الناس.

جورج ضو هو ابنُ بيت عريق وعائلة لها حضورها السياسي والإجتماعي في منطقة البترون وفي لبنان.

هو ابن النائب يوسف أسعد ضو، النائب الاستقلالي الذي خبَّأ محضر تعديل الدستور في البترون لكي لا يقع في أيدي الفرنسيين ليلة اعتقالهم رجال الاستقلال في قلعة راشيا، وابن شقيق منير ضو قائمقام صور ثم المدير العام للأمن العام، وحفيد أسعد يوسف ضو مدير ناحية البترون الساحلية في أوائل القرن العشرين.

تربّى على يد والدة فاضلة علّمته الصلاة والاتكال على الله والثبات فيه تمامًا كما يثبت الغصن في الكرمة؛ وعلى يد والدٍ محامٍ وسياسي يتعاطى شؤون الناس ويخدمهم ويشاركهم همومهم.

بعد دراسته في المؤسسة الحديثة في الفنار، وكان رفيق الدراسة للشيخ بشير الجميّل، درس الحقوق في جامعة الحكمة ثم جامعة القديس يوسف بيروت. وراح يمارس المحاماة رسالةً وحضورًا في الشأن العام.

ويقول: « تدرجت مع والدي في العمل العام وتدربت على خدمة الناس وأهلي في البترون ومنطقتها بخاصة، واخترتُ المحاماة كوالدي وجدي المهنة الصعبة، ولكنها الأكثرُ التصاقًا بمشاكل الناس ومعاناتهم، والأكثرُ قربًا من مواقع السلطة والقرار في مؤسسات الدولة».

تسلّم في أواسط السبعينيات من القرن الماضي « مقاليد الخدمة والتضحية»، كما يقول، في زمن صعب وقاسٍ. وراح يمارس السياسة بتواضع وتجرّد وإخلاص خدمةً وتضحية في سبيل الخير العام لا سعيًا وراء مصلحة شخصية.

حاول واستطاع أن يبقى وفيًا لتراث عائلته العابق بالخير والعطاء وخدمة الناس، ومارس « فعل إيمانٍ عميق بالإنسان وبلبنان، وحقق انفتاحًا إنسانيًا واجتماعيًا وسياسيًا على كل الناس وعلى جميع الفئات في منطقة البترون، إذ كانت الأحداث آنذاك قد اتخذت طابع المؤامرة الشرسة على الهوية والكيان والمصير»، كما يقول.

فتح دارته على شاطئ البترون، التي كان المحبّون يسّمونها « البيت الأبيض»، « لمختلف القيادات والزعامات والأحزاب لتتلاقى وتتحاور وتتناقش توصُّلاً لرأب الصدوع التي نخرت بنياننا الأهلي والإجتماعي والسياسي، وهدّدتنا جميعًا في مقوّمات حياتنا ووجودنا، نتيجة حرب الآخرين على أرضنا ثم حربنا الوسخة على بعضنا».

وتشهد على ذلك اللقاءات التي عُقدت بين الرئيسين سليمان فرنجيه وأمين الجميل، وغيرهما من الزعماء.

حافظ على العلاقة التاريخية بين آل ضو وآل فرنجيه القائمة منذ ماية وخمسين سنة، من أيام أسعد بك ضو وسليمان اعناطيوس فرنجيه جدّ الرئيس فرنجيه. وكان الابنَ المميّز للرئيس سليمان فرنجيه والمستشار المسموع، وعضوًا في الجبهة الوطنية التي أسسها الأخير في أيلول 1976.

وفي الخامس والعشرين من أيلول من تلك السنة، قرّر أن يتحدّ بسرّ الزواج المقدس مع زينه فرح ابنة كبا وتعاهد معها على عيش إيمانه وتربية عائلة مسيحية ملتزمة ومتابَعَةِ خدمته السياسية والإجتماعية.

ويوم بدأت الممارسة السياسة تنحرف عن مبادئها وعن القيم التي من أجلها وُجدت، اعتزل جورج ضو السياسة واعتكف وتنسّك في منزله يقرأ الكتب الدينية ويتعمق في فهم إيمانه؛ وراح يقصد مرارًا لوحده أو مع زوجته وأولاده الأربعة وادي قنوبين ليلتقي الحبيس أنطونيوس شينا أو الحبيس يوحنا الخوند، أو يأتي للصلاة في مار اسطفان، أو يقصد دير كفيفان يومي خميس الأسرار والجمعة العظيمة ليصلّي ويتوب إلى ربّه ويشارك المسيح مسيرة آلامه.

وأشهدُ، في السنوات التي رافقتُه فيها عن قرب منذ أتيت خادمًا لرعية البترون خلفًا للمطران فرنسيس البيسري وبرعاية المطران بولس آميل سعاده وهما صديقان لهذا البيت، أن جورج وزينه التزما معًا بتربية أولادهما الأربعة على الإيمان بالله وبالإنسان وبلبنان وبعيش إيمانهما في الكنيسة وفي المجتمع. فكانا ملتزمين في فِرق عائلات مريم وفرق السيدة العذراء حيث كنا نلتقي شهريًا على مدى سنوات لنصلّي معًا ونقرأ كلمة الله في الكتاب المقدس ونتعمّق فيها، إذ كنا نعتبر أننا نتقدس بفضل الكلام الذي يقوله لنا السيد المسيح، ونتشارك الآراء حول المواضيع التي تهمّ أولادنا وعائلاتنا التي تواجه أخطر التحديات.

وتابعتُ مرافقتي للأستاذ جورج حتى اللحظات الأخيرة عندما أُدخل، منذ بضعة أيام، العناية الفائقة في مستشفى سيدة مارتين في جبيل على إثر جلطة دماغية. فجمعتُ العائلة وصلّينا معًا ومنحتُه سرّ مسحة المرضى، زاده الأخير الذي حمله لينطلق بسلام مرتاح الضمير إلى الثمار التي تركها لنا بشهادةِ حياته.

وفيما نحتفل نحن بالصلاة لمرافقة أخينا جورج في دخوله مجدَ القيامة، ونحن قياميّون، يرافقنا هو من السماء ليحتفل مع زينه بالذكرى الثانية والأربعين لزواجهما التي تصادف الخامس والعشرين من أيلول، ويسأل الله، وهو قائم أمامه، أن يبارك عائلته ويبارك جميع عائلاتنا كي تبقى خميرة صالحة تربّي على الإيمان والقيم المسيحية والإنسانية والوفاء للبنان، الوطن الرسالة. ويطلب منه بخاصة أن ينير عقول السياسيين والمسؤولين من بيننا كي يلتزموا بخدمة المجتمع والوطن ويضحّوا في سبيل الخير العام.

في زمن الفساد والانحطاط الأخلاقي والحروب والتطرّف والإرهاب، شعبنا ووطننا لبنان يحتاجان إلى قديسين ولكن أيضًا إلى سياسيين يمارسون السياسة في التضحية والتجرّد عن المصالح الخاصة الضيّقة من أجل قيام الوطن والدولة والمؤسسات.

حبّذا لو تعلّموا من جورج ضو التواضع والخدمة المجانية ونظافة الكف !

إننا نتقدم بتعازينا الحارة والقلبية، باسم صاحب السيادة المطران بولس آميل سعاده وإخوتي الأساقفة والكهنة، وباسمكم جميعًا، من زوجته السيدة زينه وأولادها منير وجورج وإيميه وميشالّ، ومن عائلات المرحوم شقيقه وشقيقاته هنا وفي فرنسا وكولومبيا، ومن رابطة آل ضو ونقابة المحامين والبترونيين.

وكُلُّنا رجاء أننا جميعًا، مسيحيين ومسلمين لبنانيين، سنقبل ببذل التضحيات في سبيل أن تقوم دولتنا ويقوم وطننا فيبقى الوطنَ الرسالة في المحبة والمصالحة والسلام والعيش الواحد في احترام التعددية. آمين.

Photo Gallery