عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد القديس نعمة الله الحرديني
دير مار قبريانوس ويوستينا- كفيفان، الجمعة 14/12/2018
« فتركوا كل شيء وتبعوه» (متى 4/20)
الأب الرئيس، إخوتي الكهنة والرهبان، أخواتي الراهبات
أخويات أبرشية البترون، وشبيبة البابا يوحنا بولس الثاني، أحبائي جميعًا.
نحتفل معًا اليوم بعيد القديس نعمة الله الحرديني الذي لبّى دعوة يسوع إلى القداسة فترك كل شيء في الدنيا وتبعه.
وفي إنجيل العيد، يسوع يدعو رسله الأولين، بطرس وأندراوس أخاه، ويعقوب ابن زبدى ويوحنا أخاه، وهم صيادو سمك. دعاهم يسوع من حيث هم في حياتهم اليومية. فتركوا شباكهم وتبعوه.
واليوم يجدّد يسوع دعوته لنا جميعًا، ولكل واحد منا، إلى القداسة، كما دعا الرسل وكما دعا القديس نعمة الله ابن حردين، ابن أرضنا البترونية المقدسة. فهل نلبّي الدعوة ونترك أمور هذه الدنيا لنتبعه ونتخّذه معلّمًا لنا وقدوةً ؟
يقول قداسة البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي الأخير « إفرحوا وابتهجوا»:
« أريد أن أذكرّكم أن الدعوة إلى القداسة التي يوجّهها الرب يسوع إلى كل فرد منا، هي الدعوة التي يوجهها إليك أنت أيضًا: كونوا قديسين لأني أنا قدوس (أحبار 11/45 و1 بطرس 1/16). ويقول المجمع الفاتيكاني الثاني: إن كل المؤمنين المزودّين بوسائل خلاصية غزيرة وعظيمة، أيًا يكن وضعهم وحالهم، يدعوهم الرب، كل حسب طريقه، إلى قداسةٍ تجد كمالها في كمال الآب السماوي نفسه» (نور الأمم، عدد 11). (إفرحوا وابتهجوا، عدد 10). « فجميعنا مدعوون لنصبح قديسين ونعيش بمحبة ونقدم شهادتنا في الانشغالات اليومية، حيث نكون». (عدد 14).
إنها دعوة شاملة إلى المسيحيين. جميع المسيحيين، لكي يتبعوا يسوع على طريق الخلاص، على طريق القداسة.
وكان القديس البابا يوحنا بولس الثاني قد قال لنا نحن اللبنانيين، في احتفالات إعلان تطويب وتقديس مار نعمة الله: كل واحد منكم قادر أن يكون قديسًا مثل القديس نعمة الله. وعلينا اليوم أن نتخذ من حياته مثالاً.
هو الشاب يوسف كساب، دعاه الرب من عائلة مؤمنة ملتزمة ومن رعيته حردين إلى القداسة. فترك كل شيء وتبع يسوع وهو في الثامنة عشرة من عمره ودخل الرهبانية اللبنانية المارونية.
وإذا راجعنا حياته، بين ولادته سنة 1810 ووفاته سنة 1858، نرى أنها كانت في فترة صعبة جدًا على كنيستنا وشعبنا ووطننا لبنان حيث كانوا يرزحون تجت احتلال الامبراطورية العثمانية ويعانون من الظلم والاضطهاد والتهجير والفقر. ونرى أن يسوع كان يرافقهم ودعا ثلاثة قديسين كبارًا، نعمة الله وشربل ورفقا، وغيرهم كثيرين غير معلنين، عاشوا مع شعبهم وواجهوا تحديات الزمن ولبَّوا الدعوة إلى القداسة كلٌ على طريقته. وبعد أكثر من ماية سنة، تمّ إعلان تطويبهم وقداستهم في فترة يعيش فيها شعبنا وكنيستنا ووطننا مراحل تحديات كبيرة في الحرب والاحتلال والظلم والفقر والتهجير. فهل لنا أن نقرأ إرادة الله في القديسين الثلاثة وفي الطوباوي الأخ اسطفان نعمه، الذي هو على طريق إعلان القداسة، والبطريرك الياس الحويك، الذي هو أيضًا على طريق التطويب، كما أبلغونا في روما مؤخرًا ؟
أليست هذه علامة من علامات الزمن التي يرسلها الله إلى شعبه ؟
ونحن لا زلنا مغفّلين عن قراءة إرادته في حياتنا ونتلّهى في أمور هذه الدنيا الفانية، السلطة والمراكز والممتلكات والأموال، ونجهد في سبيل تقاسم الحصص.
أين إيماننا ؟ وأين ثقتنا بالله ؟ وأين جوابنا على دعوته لنا لنقول مع مريم: فليكن لي بحسب قولك ؟
هذا الكلام هو رسالة خاصة موجهة ليس فقط إلى المسؤولين من بيننا، سياسيين كانوا أم مدنيين أم كنسيين، بل إلى كل واحد منا.
الله يدعونا إلى القداسة في هذه الظروف الصعبة بالذات؛ وهناك من يتقدس اليوم من بيننا وهو ليس معروفًا ومُعلَنًا. لأنه « في الليل الأشدّ ظلامًا يظهر أكبر الأنبياء والقديسين»، كما يقول البابا فرنسيس. (إفرحوا وابتهجوا، عدد 8).
هل كان لنعمةالله الحرديني أن يتجاوب مع دعوة الله ويتقدس لو لم يكن قد تربّى في عائلة مسيحية ملتزمة وثابتة في إيمانها في مواجهة عواصف الزمن ؟ طبعًا لا.
وأنا أتوجه إلى كل عائلة من عائلاتنا وإلى كل أخوياتنا الحاضرة معنا، وإلى كل أب وأم، إلى كل شاب وصبية، قائلاً لهم: كونوا على ثقة أن الله يدعو اليوم أشخاصًا من بينكم ومن أفراد عائلاتكم إلى القداسة.
لا تنسوا أن مسؤوليتكم كبيرة، وأن مسؤوليتنا نحن رعاة الكنيسة كبيرة أيضًا. لأنه علينا أن نشهد معًا لإيماننا وللقيم المسيحية التي تربّينا عليها في كنيستنا وعائلاتنا، بالبساطة والفقر والتواضع وبالتسليم الكامل لإرادة الله. ولا يفكرّنّ أحد منا أن يرمي المسؤولية على غيره ! جميعنا مسؤولون وكل واحد منا قادر أن يكون قديسًا !
نصلي اليوم على نية عائلاتنا وعلى نية كنيستنا التي تواجه حربًا شرسة، وبخاصة في وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي، طالبين من الله، بشفاعة العذراء مريم والقديس نعمة الله وجميع قديسينا، أن يمنحنا نعمة النظر الداخلي والروحي لنفتح عيوننا وأذهاننا ونقرأ إرادته من خلال علامات الزمن الذي هو زمن قداسة لا زمن تعاسة.
ورجاؤنا كبير أننا قادرون على متابعة طريقنا نحو القداسة. وثقتنا أكبر بكنيستنا التي هي كنيسة المسيح، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. آمين.