عظة المطران منير خيرالله في قداس عيد مار مارون السبت 9/2/2019- في دير مار يوحنا مارون- كفرحي « لقد اتت الساعة لكي يُمجَّد ابن الإنسان» (يوحنا 12/22). في يوم عيد مار مارون أبينا الروحي نسمع الرب يسوع يقول في الإنجيل: « لقد أتت الساعة لكي يمجَّد ابن الإنسان». عن أية ساعة يتكلم الرب يسوع ؟ وعن أية ساعة مجد ؟ إنها ساعة الموت؛ الساعة التي سيموت فيها ابن الله وابن الإنسان يسوع المسيح على الصليب من أجل خلاص البشر. هل يفهم منطق البشر أن ساعة الموت هي ساعة مجد ؟ إنه منطق الإله، منطق المحبة الذي قلب مقاييس البشر. لأن الله من فيض حبه أراد أن يبذل ابنه يسوع المسيح حياته موتًا على الصليب في سبيل خلاصنا وفي سبيل أن تكون لنا الحياة الأبدية، في سبيل أن نعود أبناء الله ونتحرّر من عبودية الخطيئة التي كانت غرقت فيها البشرية بعد الخطيئة الأولى. جاء المسيح يحررنا بموته وقيامته، كما يقول القديس بولس، لكي نكون أحرارًا ونعيش أحرارًا. هذا هو التحدّي الذي ينتظرنا في عيش شهادتنا للمسيح، والذي من أجله ندفع أغلى الأثمان، لكي نبقى أحرارًا في المسيح يسوع. مار مارون، الذي نحتفل بعيده اليوم، يعيدنا إلى القرون الأولى للمسيحية، إلى القرن الرابع الذي عاش فيه بين سنة 350 وسنة 410، ويدعونا، نحن أبناء مارون المنتشرين في العالم، إلى الأصالة وإلى الروحانية التي وضعها وعاشها هو ناسكًا وكاهنًا. ترك مارون كل شيء في هذه الدنيا وراح يعيش حياة نسكية متجردة متقشفة على قمة جبل قورش بالقرب من أنطاكيه. كرّس حياته ليعيش في الحرية علاقة ثلاثية مميزة: علاقة مع الله، علاقة مع اخوته البشر، وعلاقة مع الأرض. أولاً، اختار مارون أن يعيش التجرّد والحياة النسكية في السهر والصوم والتقشف والصلاة والوقوف المستمر لكي تكون له علاقة مباشرة مع الله. فأمّ قمة الجبل التي رأى فيها نقطة استراتيجية تُبعده عن الدنيا وهو ينظر إليها من بعيد، وتقرّبه من الله الذي يراه ويناجيه من بعيد ولا يواجه سواه. هذه العلاقة المميزة جعلت منه شاهدًا لله وللمسيح وللإنجيل. ثانيًا، اختار مارون أن يبقى منفتحًا على إخوته البشر. في حياته النسكية على قمة الجبل، كان يتقاطر إليه الناس بكثرة لطلب شفاعته. فمنحه الله نعمة شفاء الأمراض الجسدية والنفسية، كما يشهد مطرانه تيودوريطس القورشي الذي منحه سرّ الكهنوت ليكون معلّمًا ونبيًا ومقدّسًا لشعب الله. ثالثًا، اختار مارون أن يعيش علاقة مميزة مع الأرض التي خلقها الله وقدّسها لتكون في خدمة الإنسان ويعيش منها بكرامته وعرق جبينه. فقرّر أن يعمل فيها ويفلحها ويزرعها، مع أنها أرض صخرية قاحلة، ليعيش منها بحرية وكرامة. لذا أحبّها وتعلّق فيها. ثوابت ثلاثة في حياة القديس مارون وروحانيته تركها لتلاميذه وكانوا كثرًا. ومن تلاميذ من أتى من قمم جبال قورش إلى قمم جبال لبنان ليحملوا هذه الروحانية ويشهدوا لها في عيشهم المتجرّد. أتوا أول ما أتوا مع ابراهيم القورشي إلى جرود جبيل والبترون والجبّة وراحوا يعيشون روحانيتهم في علاقة مميزة مع الله ومع إخوتهم البشر ومع الأرض. فبنوا الكنائس والأديار، وبشروا سُكان الجبال أتباع الديانة الفينيقية وحوّلوهم إلى مسيحيين على اسم مارون، وعملوا في الجبال القاحلة وحوّلوها إلى جنّات لا تزال تشهد حتى اليوم على حبّهم لها وتعلّقهم بها، إذ سقوها من عرق جبينهم ومن دمائهم في الشهادة والاستشهاد على مرّ الأجيال. وجاء يوحنا مارون ليؤسس سنة 685 كنيسة بطريركية على اسم مارون، وهي الوحيدة التي تحمل اسم شفيعها، انطلقت من هنا من كفرحي حاملة رسالة أممية بروحانية مار مارون. يبقى لنا أن نتساءل: لماذا ثبتت هذه الكنيسة الصغيرة وما هو سر ثباتها وسرّ إستمراريتها حتى اليوم وهي منتشرة في العالم ؟ السرّ الوحيد هو أن تلاميذ مارون وشعب مارون عاشوا كلهم شعبًا واحدًا حول رأس واحد، رأس كنيستهم، هو البطريرك، منذ يوحنا مارون حتى اليوم. عاشوا بوحدة وتضامن؛ عاشوا كلهم، أساقفة وكهنة ورهبانًا ونساكًا وشعبًا وعائلات، بحسب روحانية مار مارون، ثابتين على إيمانهم بالله ولم يتزحزحوا، ودفعوا الأثمان الغالية في سبيل أن يبقوا ثابتين. عاشوا بمحبة وتضامن مع بعضهم البعض وبانفتاحٍ على إخوتهم البشر من كل الطوائف والديانات والثقافات والحضارات، وكانوا شهودًا للمسيح ولأبيهم مار مارون في احترامهم للإنسان، كل إنسان. عاشوا يعملون في هذه الأرض بكرامتهم كي لا يمدّوا يدهم ويستعطوا من أحد. كانوا شعبًا ينشد الحرية، فقط الحرية، حرية أبناء الله، لأنهم، كما يقول القديس بولس « أصبحوا أحرارًا في المسيح ليبقوا أحرارا». فالحرية كانت أغلى ما عندهم. الحرية في علاقتهم مع الله ومع البشر ومع الأرض. نحن اليوم، وفيما نعيّد عيد أبينا مار مارون، علينا أن نقف في وقفة فحص ضمير لنتساءل أين نحن اليوم من سر إستمرارية كنيستنا وشعبنا على وجه الأرض؟ أين نحن اليوم من إيماننا بالله وثقتنا الكاملة به ؟ أين نحن اليوم من انفتاحنا على البشر أجمعين، بكل تعددياتهم الطائفية والدينية والثقافية؟ أين نحن اليوم من تعلّقنا بأرضنا المقدسة التي أعطانا الله إياها لتبقى تدعونا الى الأصالة والى التجرد عن كل شيء والى العيش في حرية كاملة ؟ إنها دعوة الى كل واحد منا، نحن أبناء مارون، من أكبر المسؤولين في الكنيسة وفي السياسة، الى آخر ماروني ولد اليوم، للعودة إلى ثوابتنا وإلى الحرية التي نشأنا عليها لكي نعيد النظر في علاقتنا مع الله ومع إخوتنا البشر ومع أرضنا المقدسة. نحن مدعوون إلى أن نبقى واقفين لأننا لم نتعود الركوع ولا السجود إلا لله وحده. لا تخافوا، نحن أقوياء بالمسيح يسوع، أقوياء بقديسينا وأقوياء بشهدائنا وبطاركتنا ومطارتنا ونساكنا من وادي قنوبين حتى آخر بقعة في الأرض. أقوياء بشهودنا وبعائلاتنا المباركة والمقدسة. نحن أقوياء لأننا أحرار ونريد أن نبقى أحرارًا. آمين