عظة المطران خيرالله
في مسيرة درب الصليب ورتبة السجدة
الجمعة العظيمة 29 آذار 2013، في محابس حردين.
« إخلع نعليك من رجليك واقترب لأن المكان الذي تدوسه هو مكان مقدس».
حضرة الخوري يوسف (صالح)،
أحبائي جميعاً من أين أتيتم.
أنظروا من حولكم، فتروا أننا معلّقون بين الأرض والسماء. نحن في هذا المكان المقدس، وعلى هذه الأرض التي تقدست على يد آبائنا القديسين، نحتفل بالمرحلة الأخيرة من حياة يسوع بين البشر، بمسيرة الجلجلة، بموته على الصليب، كي نحتفل يوم الأحد بقيامته من بين الأموات، وقيامتنا جميعاً إلى حياة جديدة.
هذا المكان المقدس يدعونا إلى وقفة ضمير كي نتأمل بسرّ الحب، حب الله المطلق للبشر لدرجة أنه بذل إبنه الوحيد يسوع المسيح الذي ارتضى أن يصير إنساناً ويحمل بشريتنا الضعيفة، ويحمل خطايانا حتى الصليب، حتى الموت على الصليب. إنه سرّ الفداء. الله يفتدينا بإبنه يسوع المسيح. إنه سرّ الحب، حب الله لنا الذي افتدانا بموت ابنه ودعانا إلى أن نموت معه لكي نستحق أن نقوم معه إلى حياة جديدة. الله يحبنا حباً عظيماً ومطلقاً. وكل مرة نلتقي في الجمعة العظيمة لنحتفل بسرّ موت المسيح، ثم يوم الأحد بقيامته، نعود نتذكّر أن الله محبة؛ ولم يستطع أن يعامل البشر إلاّ بالمحبة. مع أنه منذ البدء خلق الإنسان على صورته كمثاله، خلقه للحب؛ لكن الإنسان سقط لأنه طمع بنعمة الله وتكبّر. والله لم يعامله إلاّ بالمحبة. فعاد وحضن آدم وحواء، وحضن من خلالهما الإنسانية كلها ووعدها بالخلاص. فعاشت البشرية مسيرة الإنتظار الطويلة إلى أن تمّ الزمن بمجيء يسوع المسيح ابن الله.
آباؤنا وأجدادنا الذين عاشوا على هذه الأرض وبين هذه الجبال الوعرة والصخرية القاحلة، اختبروا قربهم من الله وصلتهم المباشرة به. عاشوا بحريّة وأعلنوا إيمانهم بالله أمام البشر من دون خوف. وهذا المكان الذي نجتمع فيه اليوم، والذي يحاول الخوري يوسف أن يعيد إليه مسيرته التاريخية في الروحانية النسكية التي ورثناها عن آبائنا القديسين، من مار مارون إلى مار يوحنا مارون إلى البطاركة والمطارنة والرهبان والآباء والأمهات، هو مكان صلاة ونسك جعلكم تأتون اليوم بأعداد كبيرة لتحتفلوا برتبة سجدة الصليب وتشاركوا معنا بسرّ موت يسوع المسيح، سرّ الحب، الذي أعطي لنا جميعاً مجاناً.
حضوركم اليوم يثبّت أننا أقوياء بيسوع المسيح، وأن كنيستنا - كنيسة المسيح على هذه الأرض المقدسة- هي ثابتة في إيمانها ورجائها ورسالتها وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.
لا تخافوا ! المسيح، الذي رضي أن يموت على الصليب، واعتقد صالبوه وشعبه أنهم انتهوا منه وأنه بموته انتهى كل شيء، قال على الصليب وقبل أن يُسلم الروح: لقد تمّ كل شيء. نعم تمّ مخطّط الله الخلاصي للبشر واكتمل سرّ الحب. نعم تمّ كل شيء ولم ينتهِ شيء. بموت يسوع المسيح ابتدأت الحياة الجديدة وأعطيت البشرية نعمة الخلاص. كنيستنا اليوم وكل يوم تعيش بالمسيح حياة جديدة. وتشهد لرجائها بمجد القيامة بفضل القديسين والقديسات الذين على مثال المسيح قبلوا أن يبذلوا ذواتهم ويتقدسوا ويقدّسوا شعبهم.
نحن اليوم أقوياء، لا تخافوا ! بعد موت وقيامة المسيح، لم يعد للموت سلطانٌ علينا، ولا الخطيئة والشر. نحن انتصرنا بالمسيح ومع المسيح، وأصبحنا أقوى من الموت.
لا تخافوا ! طالما أنه لا زال عندنا مؤمنون ومؤمنات مثلكم يصلّون ويتكبّدون اجتياز المسافات ليأتوا إلى أرض القداسة ويكرّسوا ذواتهم لله، فنحن بألف خير.
كنيستنا، كنيسة المسيح في البترون وفي لبنان، كنيسة مار مارون والحاملة روحانيته النسكية، هي بألف خير اليوم.
إن البابا الجديد فرنسيس، وعلى خطى أسلافه المائتين وخمسة وستين، جاء يرسم برنامجاً لخدمته البطرسية في التواضع والبساطة والمحبة والإيمان العميق والصلاة الحميمة مع الله، ويحمل قضايا البشرية التي حملها من قبله يسوع المسيح على الصليب، قضايا الشعوب المتألمة والفقيرة والمظلومة والمحرومة من كرامتها وحريتها في الأرجنتين وأميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. جاء يقول للبشر أجمعين: الله يحبكم. الله يحب بابنه يسوع المسيح الفقراء والضعفاء والجائعين والمساجين والمظلومين. جاء يقول لنا: لا تخافوا ! أعلنوا إيمانكم بيسوع المسيح ولا تهتموا بأمور هذه الدنيا. أعلنوا إيمانكم « بيسوع المسيح مصلوباً». جاء يقول: أنا بابا الفقراء.
لا تخافوا ! كنيسة المسيح بألف خير. ولكن انتبهوا، قال البابا فرنسيس، إذا اكتفينا بأن تقوم الكنيسة بالأعمال الخيرية، تصبح كأي جمعية غير حكومية. الكنيسة شعب الله هي أكثر من ذلك. إنها تعيش المسيح وتعلن المسيح المصلوب والقائم من الموت للبشر الذين أصبحوا بموت وقيامة المسيح أبناء وبنات الله.
صلاتي معكم اليوم أقدّمها من أجلكم جميعاً، من أجل كل من تحملون في نواياكم، من أجل كل عائلة من عائلاتكم، من أجل إخوتنا الضعفاء والمتألمين والمرضى والمظلومين. ونقول لكم ولهم: إننا سنرفع مع المسيح على الصليب وسنموت معه لنستحق حياة جديدة ومجد القيامة في الملكوت. آمين.