عظة المطران منير خيرالله
في قداس ليلة عيد مار نوهرا
سمارجبيل- الأحد 21 تموز 2013
« فليضئ نوركم للناس ليروا أعمالكم الصالحة، فيمجدوا أباكم الذي في السماوات» (متى 5/16).
إخوتي أبونا إيلي وأبونا جورج،
أحبائي جميعاً،
يدعونا مار نوهرا اليوم وكل يوم أن نعود الى كلمة الله في تعاليم يسوع المسيح وفي الإنجيل. والانجيل الذي اخترناه لهذا العيد يناسب رسالة القديس نوهرا. هو نور العالم. يقول لنا السيد المسيح انتم ملح الارض أنتم نور العالم. لكن الويل لكم إذا فسد ملحكم فلا يعود يصلح لشيء بل يطرح في الخارج. أنتم نور العالم، لكن الويل لكم اذا أصبح نوركم ظلاماً. فالنور يوضع على المنارة ليضيء لجميع الذين هم في البيت. لكن اذا انطفأ النور من ينير العالم ؟ هذه هي الرسالة التي حمّلها يسوع المسيح لرسله ولكنيسته. والرسل وخلفاؤهم وجميع الذين تبعوهم وتقدسوا في خلال ألفي سنة من مسيرة الكنيسة كانوا يسعون أن يكونوا نور العالم وأن يضيء نورهم وان تكون اعمالهم الصالحة شهادة لالتزامهم المسيحي فيمجد العالم الآب الذي في السماوات. هذا هو المطلوب منذ بداية الكنيسة واليوم وكل يوم.
مار نوهرا شفيعكم هو أصلاً من بلاد فارس إيران اليوم، عاش في القرن الثالث للمسيحية وكان من عائلة غنية جداً. تربى فيها على إيمان ديانته بالآلهة في بلاد فارس. ولكنه تعرّف الى المسيح فاقتنع بأنه هو الاله وهو المخلص، فترك آلهته وديانته وشعبه وراح يتعلم المسيحية فيعتنقها ثم يلتزم بعيشها شهادة للعالم وشهادة لشعبه وكل الامم. ثم، بعد أن تمرس في تعليمه المسيحي أصبح كاهنا وحمل رسالة المسيح وراح يبشر به في كل المنطقة. إلى أن قرر أن يأتي الى بلاد فينيقيا لأنه عرف أن الفينيقية هي ديانة عريقة لكنها لا تعرف الله الحق ولا تعرف ابن الله يسوع المسيح مخلص العالم. جاء الى شواطىء فينيقيا، الى هذه المنطقة وبشر فيها وذاع صيته، وقام الله بعجائب كثيرة على يده. فراح الحكام الرومان، الذين كانوا يحكمون كل هذه المنطقة والبحر الابيض المتوسط وأفريقيا وأوروبا، راحوا يضطهدونه كما كانوا يضطهدون جميع تلاميذ المسيح. لكنه لم يخف من الاضطهاد بل بقي ثابتا في إيمانه ويبشر بمحبة الله للبشر ويطلب من الجميع أن يتوبوا، لأن ملكوت الله تحقق بين البشر بيسوع المسيح. فاستدعاه الملك وطلب منه أن ينكر مسيحيته. فرفض؛ وكان جوابه الوحيد: أنا مسيحي وألتزم باتّباعي للمسيح حتى النهاية، حتى الموت. ولم ينكر مسيحيته. فحكموا عليه بالإعدام وقطع راسهُ في أواخر القرن الثالث في أيام الامبراطور مكسيميانوس. يقال، ولسنا أكيدين بعد من التاريخ، أنه استشهد هنا في سمار جبيل، لماذا؟ لأن سمار جبيل كانت مركزاً عريقاً للديانة الفينيقية، هنا في القلعة الفينيقية على مشارف جبيل والبترون وبيروت وطرابلس.
استشهد هنا وكان استشهاده رسالة وقدوة لكل المسيحيين وغير المسيحيين الذين رأوا فيه نوراً، واسمه نوهرا بالسريانية أي منير بالعربية. كان حاملاً نور الرب يسوع الى كل الأمم. لذا أصبح هو شفيع البصر.
ونحن اليوم، فيما نعيد شفيعنا مار نوهرا، نرى أنفسنا أمام الله نجسد ونسلّم له ذواتنا من جديد ونقوم بفعل توبة صادق، وكلنا بحاجة الى توبة لكي نتجدد في إيماننا وفي التزامنا في عيش مسيحيتنا شهادة للأمم ولكي نكون كلنا نوراً لعالمنا. وكم يحتاج عالمنا اليوم الى نور الشهادة المسيحية. وعالمنا اليوم يعيش في ظلمة الحقيقة وملذات هذه الدنيا والابتعاد عن الله. فأين شهادتنا نحن المسيحيين ؟ هل يصبح نورنا ظلاماً ؟ فيظلم العالم كله ؟ لا، لن نقبل بذلك. تعالوا نعود اليوم الى تراث كنيستنا وتاريخها الملىء بالشهادة المسيحية وبالقديسين والقديسات من أرضنا بالذات، أرض البترون. تعالوا نعود الى القيم التي تربيّنا عليها في كنيستنا وفي عائلاتنا، القيم التي تميزنا بها على مدى الاجيال، قيم المحبة والتضامن؛ قيم الوحدة والانفتاح على الإنسان، كل إنسان؛ قيم احترام التعددية، تعددية المذاهب والثقافات والحضارات. تعالوا نعود الى أصالتنا المسيحية ونشهد من جديد أن المسيح حاضر بيننا، اليوم وكل يوم، وأن المسيح يشجعنا على الثبات في ثوابت شعبنا وكنيستنا أي إيماننا بالمسيح وتمسكنا بالقيم التي تربينا عليها وارتباطنا بأرضنا، أرض الله، الارض المقدسة التي اقتطعها الله وقفاً له، أرض لبنان وأرض البترون بالذات. هذه الثوابت هي مسؤوليتنا اليوم وكل يوم أن نحملها نحن ونحافظ عليها وأن نربي اولادنا وأجيالنا الطالعة عليها فيكونوا هم بدورهم أيضاً شهوداً للمسيح.
وحضوري معكم اليوم يجدد التزامي الشخصي بشفيعي مار نوهرا وبهذه الكنيسة وبهذه الرعية. فما يربطني بمار نوهرا شفيعاً وكنيسة ورعية هو أبعد من القرب والقربى، وهو أبعد مما عشته معكم لسنوات طوال قبل الكهنوت وبعد الكهنوت. ولكن ما يربطني بهذه الكنيسة هو أنني أخذت فيها سر الكهنوت لأخدم فيه بالمحبة. فمنذ ست وثلاثين سنة قبلت سر الكهنوت على هذا المذبح لكي يكون مار نوهرا شفيعي دوماً وأسعى أن أخدم كنيسة المسيح في المحبة وأن أكون مثله نوراً للعالم. ومع مار نوهرا اتخذت في خدمتي الأسقفية منذ سنة لأبرشية البترون القديسة رفقا شفيعة. فبين نور العالم وبين رسالة الألم بفرح ورجاء مع القديسة رفقا، أنا أصبحت لكم ومن أجلكم خادماً في المحبة. ووضعت لي برنامجاً هو برنامج كنيستنا المارونية، برنامج المجمع البطريركي الذي قررناه كلنا وتبناه عبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي منذ انتخابه بطريركاً. فأنا أسعى الى أن تتجدد كنيستي الابرشية في البترون لتكون على مستوى المسؤولية التي يحمّلها اياها السيد المسيح، وهي أنها ارض القداسة وأبرشية القديسين. ومعكم أنا أحاول أن نتجدد كلنا. فالكنيسة ليست الأسقف أو الكهنة؛ الكنيسة هي نحن المعمدون باسم الآب والإبن والروح، علمانيون ومكرسون؛ كلنا الكنيسة، وكلنا نحمل مسؤولية بناء الكنيسة وتحقيق ملكوت الله. وبدأت مسيرة التجدد في أبرشيتنا؛ وكلكم تشهدون على ذلك. وفي زياراتي في كل رعايا الأبرشية، وكل المناسبات التي أصرّ أن أكون حاضراً فيها، أدعو الجميع الى تلبية دعوة الله لنا لكي نكون نحن أيضا قديسين؛ ونحن نستطيع أن نكون قديسين. ومسيرة التجدد بدأتها بذاتي ومع إخوتي الكهنة والرهبان والراهبات. فنحن نسير للعودة إلى أصالتنا ونحو التجدد في خدمة شعب الله بالمحبة والتضحية والتفاني والاخلاص. ومسيرة التجدد شملت أيضاً الأشخاص، جميع الأشخاص في الأبرشية، والمؤسسات كل المؤسسات. فبدأت بدوائر المطرانية ثم باللجان والمجالس، ثم بالرعايا، ولجان الوقف والمنظمات والحركات الرسولية فيها، لكي تتجدد أبرشيتنا فتمجد الله وتسير كما مار نوهرا وكل قديسينا في اتباع السيد المسيح في مسيرة الشهادة له في حياتنا كل يوم. وأنتم اليوم عينت لكم لجنة وقف جديدة لكي تعمل كما عمل من سبقها منذ سنوات لخدمة الكنيسة، البشر قبل الحجر؛ وهذه هي المسؤولية التي ألقيها على عاتق هذه اللجنة وهم يمثلونكم جميعاً. فلجنة الوقف هي في تجدد مستمر كما كل أبرشيتنا، تعين لثلاث سنوات وليس الى الأبد؛ وكلكم مدعوون لأن تكونوا في خدمة كنيستكم بشراً وحجراً. ويأتي دور الجميع ومن يريد أن يخدم الكنيسة فالكنيسة حاضرة لأي خدمة. لكني أنبّهكم وأنبّه أعضاء لجنة الوقف الجديدة، أننا سنضع كما في الأبرشية كذلك في الرعية كل إمكانياتنا ومقدراتنا في خدمة أولادنا وشبابنا؛ فهم مستقبل كنيستنا وأبرشيتنا. يهمنا البشر قبل الحجر. وعلينا أن نولي أطفالنا وأجيالنا الطالعة الإهتمام اللازم لكي يكون في هذه الرعية فرسان وطلائع وأخوية وكل الحركات الرسولية فتنشط هذه الرعية كما عهدناها وتعود تمجد الله بصوت واحد بشفاعة مار نوهرا.
هذا هو برنامجي وهذا هو عهدي أمامكم كما هو عهدي أمام كل أبناء أبرشيتي. تعالوا نتضامن ونتوحد لكي نبني كل يوم كنيستنا كنيسة المسيح في البترون. وليكن مار نوهرا الشهيد مرافقاً لنا وليكن جميع قديسينا، من رفقا الى نعمة لله الى الأخ اسطفان ومار شربل الذي نعيّد له اليوم وكل القديسين قبلهم ومن يأتي بعدهم فيكونوا شفعاء لنا وتكون كل عائلة من عائلاتنا خميرة تربي على القيم المسيحية والإنسانية، فنبني معا بتضامننا ووحدتنا وطننا لبنان الوطن الرسالة، رسالة المحبة والسلام، رسالة الحرية والكرامة، رسالة الانفتاح واحترام الإنسان، كل إنسان، في تعدّدية المواهب. آمين.