عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الراعوية لرعية صورات
الثلاثاء 6 آب 2013، ليلة عيد مار ضوميط
« أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه والباقي يعطى لكم ويزاد» (متى 6/34).
حضرة الأباء أندره وشربل وبطرس الكبوشيين الذين تخدمون هذه الرعية، وحضوركم في هذه المنطقة يشعّ محبة وخدمة وتضحية. وأنا باسم الأبرشية أشكركم على خدمتكم للناس.
أحبائي جميعاً أبناء وبنات صورات والزوار من الرعايا المجاورة.
أنا حاضر اليوم معكم كي أشهد لتاريخ وتراث صورات. أنا معكم اليوم لنعيّد معاً عيد مار ضوميط شفيع هذه الرعية.
وإذا كان آباؤكم اختاروا مار ضوميط شفيعاً لهم، كان عندهم هدف خاص من ذلك؛ وهو أن يتشبهوا به في حياتهم، وأن يقتربوا من الله بواسطة هذا القديس.
مار ضوميط، الذي عاش حياة مميزة، يدعونا اليوم إلى أن نرجع إلى ذواتنا في وقفة ضمير وفعل توبة لنلتقي بالله في علاقتنا معه وفي علاقتنا مع إخوتنا البشر.
مار ضوميط عاش في القرن الرابع للمسيحية؛ وكان من عائلة وثنية من بلاد فارس (إيران اليوم). وصار وزيراً عند الملك الذي طلب منه أن يضطهد المسيحيين. وفي خلال خدمته، أصيب بمرض داء المفاصل. فاعتبر أن الله ضربه. فعاد إلى ذاته وفهم أن الله يريد منه أن يغيّر حياته. تعرّف على الدين المسيحي وقبل سرّ العماد والتزم بعيش إيمانه الجديد. غضب الملك وحاول أن يطلب منه العودة إلى ديانته الأصلية. فهجر وطنه وأتى إلى نصيبين (في العراق اليوم) وترهب في أحد الأديار متخلياً عن كل ما في هذه الدنيا، ليعيش علاقة مميزة مع الله في حياة النسك والزهد. ترك الغنى، ترك الحكم والمملكة. ثم صار شماساً، ولكنه رفض الكهنوت لاعتباره أنه لا يستحق هذه النعمة. وفرّ إلى مغارة في أحد الجبال وعاش فيها متنسكاً باكياً على خطيئته. اجتذب الكثيرين إلى التوبة وإلى الدين المسيحي. وأعطاه الله نعمة صنع الآيات، لا سيما شفاء داء المفاصل. فعرف به الملك يوليانوس وأمر برجمه وسدّ باب المغارة عليه. فمات فيها سنة 363.
آباؤكم وأجدادكم في صورات اتخذوه شفيعاً لهم ليتعلّموا منه الكثير في مسيرة الحياة المسيحية:
أولاً، أن كل إنسان يخطأ، ولكن ليس كل إنسان يعرف أن يتوب. تعلّموا منه التوبة والعودة إلى الله. وفي فعل التوبة، تعلّموا أن يسلّموا ذواتهم إلى الله بثقة كبيرة.
ثانياً، تعلّموا منه الزهد بالعالم، والعالم زائل وفانٍ؛ تعلّموا أن يبتعدوا عن العالم وملذاته ليتكرّسوا في عيش ملتزم بقربهم من الله.
ثالثاً، تعلّموا منه قراءة علامات الله في الزمن، وفهموا أن الله لا يضرب أحداً. فالله مطلق المحبة ولا يقبل بأن يضرب الإنسان الذي خلقه على صورته كمثاله. هل يرضى أحد منكم الشرّ لأولاده ؟ لكن المؤمن يعرف أن يقرأ مشيئة الله في حياته، وهي للخلاص، ويفهم أن الله يطلب منه أن يعيّر حياته.
رابعاً، تعلّموا منه أن يعيشوا حياة الزهد والنسك، وهي من تراث وتقليد كنيستنا المارونية التي تقدّست في روحانية مار مارون النسكية وتلاميذه، ثم يوحنا مارون الذي أسّس الكنيسة البطريركية المارونية.
آباؤكم وأجدادكم في صورات وغيرها من رعايا أبرشيتنا وكنيستنا، الذين أرادوا التشبّه بمار ضوميط ومار مارون، اقتنعوا بأنهم يتمّمون مشيئة الله في عيشهم الحياة النسكية. هذا لا يعني أنهم كانوا جميعهم نساكاً ورهباناً، بل كانوا في عائلاتهم ومجتمعهم يعيشون مقوّمات النسك، التي تتجلّى في العيش على قمم الجبال أو في قعر الوديان، وفي الصلاة المستمرّة والسهر والصوم، وفي التخلّي عن ملذات الدنيا، وفي العمل في الأرض. فأرضنا في هذه الجبال هي أرض صخرية قاحلة حوّلوها إلى جنّات بفضل تعبهم وعرق جبينهم. ونحن اليوم نحصد مما زرعوا.
وفي ليلة هذا العيد، أدعوكم جميعاً إلى العودة إلى الذات وإلى الله طالبين شفاعة جميع الذين تقدّسوا على أرضنا لنصلح علاقتنا مع الله.
أولاً، أدعوكم إلى القيام بفعل توبة صادق. ومن منا لا يحتاج إلى توبة ؟ وإذا نظرنا إلى حياتنا، نرى أننا نركض وراء هذه الدنيا ومادياتها وملذاتها. وماذا سنأخذ معنا منها ؟
ثانياً، أدعوكم إلى الثقة بالله والاتكال عليه. قال لنا المسيح: « أنظروا طيور السماء، فهي لا تتعب ولا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماوي يقوتها». فكم بالحري أنتم.
من منّا اليوم يتّكل على الله ؟ نقول: إننا نتعب ونركض لنؤمّن لأولادنا عيشاً كريماً ونقدّم لهم كل شيء. أين الله في حياتنا ؟ وماذا سنأخذ نحن وهم معنا من هذه الدنيا ؟ لا شيء، سوى أعمالنا. لماذا لا نضحّي لنربّيهم على القيم التي هي في أساس صمود كنيستنا وشعبنا، وفي أساس الذين تقدّسوا على أرضنا. نريد أن نتّكل فقط على نفوسنا.
« من منكم إذا اهتمّ يستطيع أن يزيد على حياته مقدار ذراع واحدة ؟» لا أحد. ولماذا نتهافت على هذه الدنيا. « أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، والباقي يعطى لكم ويزاد». أي أب وأم اليوم يهتمّان بأن يجمعا العائلة للصلاة ولتربية الأولاد على القيم المسيحية، أي التضامن والوحدة والسلام والانفتاح واحترام الإنسان والحرية والكرامة ؟ هذه كلها تكون لنا كنوزاً في السماء؛ والباقي يعطى لنا ويزاد.
ثالثاً، أدعوكم إلى العودة إلى مقوّمات روحانيتنا النسكية.
حالتنا الإجتماعية اليوم هي أفضل بكثير من حالة آبائنا وأجدادنا، الذين ارتضوا أن يعيشوا في الفقر والعوز ولكن برأس مرفوع وبكرامة؛ ذلك لأنهم اقتنعوا أن هذه الحياة هي طريقهم إلى الملكوت. بينما نحن اليوم لسنا مقتنعين ونستهزأ بالذي يعيش بموجب هذه القيم.
إلى أين نحن واصلون إذاً ؟
تعالوا نعود إلى روحانيتنا وإلى أصالة عيشنا المسيحي، فنعمل معاً على إعادة بناء وطننا لبنان، الوطن الرسالة في العيش الواحد وفي الانفتاح والمحبة والسلام. تعالوا نربّي أولادنا وأجيالنا الطالعة على القيم التي هي كنوزهم في الملكوت.
تعالوا نقرأ مشيئة الله في علامات الزمن ونتأكد أن الله لن يتركنا.
لا تخافوا، نحن أقوياء بإيماننا وبالقيم التي تجمعنا وأقوياء بتراث كنيستنا وشعبنا، وأقوياء بقديسينا. فالمسيح حاضر معنا دوماً ويقول لنا:
« لا تخافوا، أنا معكم إلى منتهى الدهر».
أقدم قداسي اليوم على نية هذه الرعية وأبنائها وبناتها وعائلاتها، الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم. وعلى نية موتاها الذين يشفعون بنا من السماء كي نكون رسلاً للمسيح في المحبة والخدمة والسلام. آمين.