عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار ضوميط
جران - الأربعاء 7 آب 2013
« أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، والباقي يعطى لكم ويزاد» (متى 6/34).
حضرة الخوري إيلي (سعاده) والخوري جورج (واكيم)، اللذين تخدمان بمحبة وتفانٍ وعطاء هذه الرعية والرعايا الأخرى في قطاع سمارجبيل.
أحبائي وأقربائي أبناء وبنات جران.
في ما أعيّد معكم اليوم عيد مار ضوميط، أعود سنوات إلى الوراء عندما كنت طالباً إكليريكياً وكاهناً جديداً لأتذكّر نشاطاتي مع الفرسان والطلائع والأخوية في هذه الرعية الجبيبة. وكبر قلبي عندما رأيتهم أمامي اليوم في الكنيسة ورأيت أولادهم يخدمون القداس في الجوقة وعلى المذبح.
أقف معكم اليوم وقفة فحص ضمير وفعل توبة في يوم عيد شفيع الرعية مار ضوميط.
كلمكّم البارحة الخوري جورج عن سيرة حياته؛ واليوم أريد أن أتوقف عند التعليم الذي تركه لنا مار ضوميط الشهيد الذي اختاره آباؤكم وأجدادكم شفيعاً لهم، وذلك ليتشبّهوا به ويلتمسوا من الله أن يرافقهم على طريق الملكوت.
نتعلّم أولاً أن كل سلطة في هذه الدنيا زائلة مهما عظمت. القديس ضوميط كان من عائلة غنية وتوصّل إلى أن يصير وزيراً في بلاط الملك في بلاد فارس. وطلب منه الملك أن يضطهد المسيحيين. أصيب بمرض داء المفاصل. فعاد إلى ذاته، واعتبر ذلك ضربة من الله أو بالأحرى علامة منه لكي يغيّر حياته، وقال: « السلطة لم تعطني شيئاً مما أصبو إليه». فتاب وتعرّف على الدين المسيحي، وقبل سرّ العماد. وابتعد عن أرضه وبلاده وراح يعيش في نصيبين في مغارة ناسكاً زاهداً في الدنيا.
ما نتعلّمه من القديس ضوميط هو أن لا سلطة تكبر على الله، ولا بدّ من أن الله يعطينا علامة. فإذا أحسنّا قراءة هذه العلامة نكون نتمّم مشيئة الله من أجل خلاصنا.
نتعلّم ثانياً من القديس ضوميط، التخلّي. تخلّى ضوميط عن المال والغنى والعيش في بلاط الملك وراح يعيش النسك والزهد في ملذات الدنيا. واعتبر أنه في حياته الجديدة يكفّر عن خطيئته، وهي أنه اضطهد المسيحيين؛ وراح يتوب ويطلب المغفرة من الله.
ونحن نتساءل: هل نستطيع أن نتخلّى عن الدنيا وما فيها ؟ وماذا سنحصد منها وماذا سنأخذ معنا منها عندما نغادرها ؟
سمعنا في الإنجيل يسوع يقول لنا: « لا تهتمّوا بما تأكلون وبما تشربون وبما تلبسون. هذه كلها هموم لا تدّلكم على طريق الملكوت. « أنظروا إلى طيور السماء؛ فهي لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء، وأبوكم السماوي يقوتها. فأنتم أفضل منها بكثير». اتّكلوا إذاً على الله. لكننا نريد أن نتّكل على أنفسنا، ونركض وراء أمور هذه الدنيا لنجمع المال ونغتني. ونقول: نحن نتعب ونضحّي كثيراً اليوم لنربّي أولادنا ونؤمّن لهم المدرسة والجامعة والاستشفاء والمستقبل. هذا صحيح. لكني أسألكم: أية تربية نقدّم لهم ؟ يهمّنا أن نجمع المال لنصرفه عليهم ونقدّم إليهم كل شيء، الضروري وغير الضروري. لكن كل هذا ماذا يعطي أولادكم ؟ هل يؤمّن لهم مستقبلاً كريماً ؟ وأي مستقبل ؟ نلاحظ فشلاً ذريعاً على كل المستويات، الإجتماعية والسياسية والوطنية. وأساس كل ذلك هو أزمة القيم.
تعالوا نعود إلى القيم التي كانت في أساس صمود كنيستنا وشعبنا وبدأت تُفقد اليوم في مجتمعنا، والتي هم: المحبة والتضحية والصدق والإخلاص والتضامن والوحدة والحرية والكرامة. هل نربّي أولادنا اليوم على هذه القيم.
لا خلاص لنا إلا إذا عدنا إلى جذور وينابيع روحانيتنا النسكية التي عاشها مار ضوميط ومار مارون، والإثنان عاشا في القرن الرابع.
نتعلّم ثالثاً من القديس ضوميط الشهادة. قَبِلَ ضوميط أن يؤدي الشهادة للمسيح حتى ولو كلّفته حياته. طلب منه الملك أن يجحد بإيمانه المسيحي ويعود إلى ديانته الأولى وإلى مركزه. رفض ذلك قائلاً: هذه هي قناعتي، وهذا هو إيماني، وهذه هي ثقتي بالرب الذي تعرّفت عليه ولا أزال أعيش علاقة مباشرة معه. ولست مستعداً أن أتركها مهما بلغ الثمن. فأمر الملك برجمه ثم بإقفال المغارة عليه حتى مات فيها واستشهد في سبيل إيمانه بالرب يسوع المسيح وعدم التراجع عن هذا الإيمان بأي ثمن.
كم نحن قادرون أن نضحّي اليوم، وإلى أين يمكن أن تصل بنا المحبة التي نتكلّم عنها ولا نستطيع أن نعيشها. المحبة هي التحدّي الأكبر للمسيحيين. ما أسهل من الكلام وإلقاء الخطابات عن المحبة، لكن ما أصعب عيشها؛ لأنها تكلّف غالياً: تكلّف عطاءً وتضحية وخدمة وتخلّياً. هل نحبّ أولادنا ؟ وهل نستطيع أن نحبّهم حتى النهاية أي أن نضحّي من أجلهم ؟
عائلاتنا التي تربّينا نحن فيها لم تكن غنيّة، ولم يكن عندها سلطة. عاش آباؤنا بالفقر والعوز لكن برأس مرفوع وكرامة؛ واقتنعوا بهذه الحالة لأنهم عرفوا أنها توصلهم إلى الله، إلى مجد الملكوت، وتقدّسوا فيها.
تعبوا بهذه الأرض وحوّلوها إلى جنات. زرعوا لنحصد نحن. هل نحن مستعدون أن نضحّي اليوم ونزرع كي يحصد أولادنا غداً ؟ إننا نرى أنفسنا نعمل العكس: نريد نحن كل شيء والآن. وأولادنا يتدبّرون أمرهم!
تعالوا نعود نعمل بموجب هذه الأمثولات الثلاثة التي نتخذها من مار ضوميط ومار مارون وتلاميذه والقديسين الذين عاشوا وتقدّسوا على أرض البترون.
تعالوا إلى ذواتنا وإلى ربنا لنقوم بفعل توبة صادق. وجميعنا نحتاج إلى توبة. ثم نتخذ مقاصد لنثبت في تراث كنيستنا، وفي القيم التي كانت في أساس تربيتنا في عائلاتنا المقدسة، وفي أرضنا التي هي أرض مقدسة وقف لله. ونثبت أخيراً في إيماننا بالله وثقتنا به ولا نقبل بأن نشترى أو نباع مهما غلت الأثمان.
قداسي اليوم أقدمه على نية هذه الرعية الحبيبة، على نية جميع أهلها الحاضرين والغائبين، على نية كل عائلة من عائلاتها، وعلى نية موتاها الذين يشفعون بنا ويطلبون لنا من الله أن نكون على مثال مار ضوميط وجميع قديسينا رسل محبة ومصالحة وسلام. آمين.