عظة المطران منير خيرالله
في زيارة رعية شاتين
كنيسة سيدة البشارة- شاتين، السبت 10/8/2013
« من له أذنان سامعتان فليسمع» (لوقا 8/8)
حضرة الخوري بطرس (بو فرنسيس) خادم هذه الرعية بمحبة وتفانٍ وعطاء.
أحبائي جميعاً، أبناء وبنات شاتين وتنورين وكل رعايانا.
يكبر قلبي كل مرة آتي إلى شاتين، وبخاصة للاحتفال معكم بالقداس في كنيسة سيدة البشارة؛ لأن الرب، بشفاعة أمه وأمنا مريم، يرفعنا إلى العلى، إلى مجد السماء، ونصبح كأننا معلّقون بين الأرض والسماء، كما علّق المسيح على الصليب ليرفع الناس ويجتذب إليه كل أحد. وهذا هو أساس روحانيتنا النسكية التي وضعها وعاشها مار مارون.
أتكلّم بالفصحى لأني أعرف أنكم جميعكم مثقفون وحاملو تراث ثقافي عريق من الآباء والأجداد.
تعليم السيد المسيح في إنجيل اليوم يدور حول كلمة الله، الزرع الذي يزرعه في قلوب البشر.
« خرج الزارع»، وهو المسيح ابن الله؛ خرج من عند الله الآب ليأتي إلى البشر ويصير إنساناً ويحمل إنسانيتنا الضعيفة ويزرع فيها كلمة الله لكي تثمر هذه الكلمة في قلب كل إنسان محبة وسلاماً وخلاصاً لجميع البشر.
والزرع هو كلمة الله يزرعه المسيح؛ لكن الزرع، كما نعرف في تقليدنا، يقع منه حَبٌّ على الطريق، وحَبّ على الصخر، وحبّ بين الشوك، وحَبّ في الأرض الجيّدة. « ومن له أذنان سامعتان فليسمع».
هكذا علّم الرب يسوع رسله وتلاميذه وشعبه،؛ ومن سمع وعمل بما سمع نال الخلاص ونال مجد الملكوت. ومن لم يرد أن يسمع كان مصيره الهلاك.
نحن اليوم نعلن عن إيماننا بحرية وكرامة وجرأة لأنه كان لنا آباء وأجداد عرفوا كيف يقبلون الزرع الذي زرعه المسيح وكيف يعملون به ويلتزمون بعيشه. فكانت قلوبهم أرضاً طيبة قبلت زرع الله وأعطت ثماراً « مئة ضعف». وأنتم اليوم من ثمار ما زُرع في قلوب الآباء والأجداد.
المسيح زرع. ومار مارون قَبِلَ زرع الله، ووضع روحانية نسكية مميزة في كنيسة أنطاكية في القرن الرابع. ووضع لها عناصر مميزة لم تكن كنيسة أنطاكية تعرفها من قبل. والروحانية النسكية هذه قامت على العيش على قمم الجبال، والابتعاد عن الدنيا وملذاتها وهمومها وسلطناتها ومالها، وعلى الصلاة المستمرّة والابتهال إلى الله والصوم والتقشف، وعلى العمل في الأرض.
هكذا عاش مارون، على خطى المعلّم الإلهي، روحانية نسكية تبعها تلاميذه من بعده؛ وأتوا إلى هذه الأرض، إلى جبال البترون وجبيل والجبّة، وعاشوا بموجب هذه الروحانية وحوّلوا هذا الجبل، الذي كان المركز الرئيسي للديانة الفينيقية وحيث كان الفينيقيون يعبدون إلإله البعل إيل، إلى أرض مقدسة على اسم المسيح، وحوّلوا الشعب إلى شعب يتطلّع إلى عبادة الإله الواحد والحق، الإله الثالوث الآب والابن والروح، الذي ارتضى أن يموت الابن-الإنسان في قمة عطاء المحبة ليخلّص البشر. وكان الشعب كله يعيش مع تلاميذ مار مارون ومع البطاركة منذ يوحنا مارون والأساقفة والرهبان والنساك والراهبات عناصر الروحانية النسكية. وهكذا ثبتوا في إيمانهم بالله وتعلّقوا بأرضهم التي تعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم، لأنها ارض صخرية وقاحلة حوّلوها إلى جنّات ليعتاشوا منها بحرية وكرامة.
وهذه الروحانية عاش عليها آباؤنا وأجدادنا مئات السنوات، ووصلت إلينا اليوم.
وسؤالي إليكم، وإلى جميع أبناء كنيستي المارونية أينما حلّوا: هل نقف عند هذا الحدّ ؟ أم أننا نحفظ ذاكرتنا الكنسية والتاريخية وننقلها إلى أولادنا وأجيالنا الطالعة ؟ هل يقف التاريخ عندنا فنمحو ما تركه الآباء والأجداد الذين نقلوا إلينا كل التراث الكنسي والإجتماعي والثقافي ؟ أم أن لدينا الانفتاح الكافي والفكر الواسع والقلب الذي يسمع كلمة الله لنقبل الزرع ونعطي من خلاله ثماراً طيّبة ؟
إطمئنوا، لستم مدعوين إلى أن تكونوا نساكاً ورهباناً وكنهة ! لكنكم مدعوون إلى أن تعيشوا عناصر الروحانية النسكية في ثوابتها التي بقيت حيّة في كنيستنا منذ مار مارون حتى اليوم.
تطلّعوا إلى الكبار بينكم واسمعوا لهم يخبرونكم كيف كانوا يعيشون حول الكنيسة والدير، وكيف كانوا يقومون باكراً قبل الفجر ويأتون إلى الكنيسة للصلاة حول « القّراية»، ثم يذهبون إلى حقولهم ليعملوا في الأرض ويتعبوا عليها، ويعودوا بعد الظهر إلى الكنيسة للصلاة قبل الدخول إلى بيوتهم.
هل إن هذه المسيرة ستتوقف عندنا اليوم، لأننا نريد أن نتبع الحضارة الآتية إلينا ونتبنّى التقنيات الحديثة لنتطوّر، وأي تطوّر ؟
إسألوا الذين كانوا قبلكم وتعلّموا في فرنسا أو إيطاليا أو أميركا، كيف حافظوا في قلوبهم على ما أخذوا من هذه الأرض المقدسة وبقوا مرتبطين فيها ومتمسّكين تراثهم وتاريخهم.
نحن اليوم نتساءل، مع كل ما نتعلّم، ومع كل ما يُؤتى إلينا من تقنيات وتطوّر وحضارة وثقافة، إذا كان ذلك سيغيّر مسار تاريخنا ؟ كلاّ. إنها وسائل وإمكانيات تساعدنا على قبول كلمة الله، تساعدنا على الإتصال والتواصل في ما بيننا، لكنها لن تقطع مسار التاريخ.
لا تخافوا. نحن قادرون أن نعلن اليوم إيماننا كما أعلنه آباؤنا وأجدادنا وكما أعلنته كنيستنا طيلة مئات السنوات. نحن قادرون اليوم على حمل الثقافة التي كنا، بفضل آبائنا وأجدادنا وتضحياتهم الكبيرة، رواداً في الشرق والغرب. ذلك لأن الأهل كانوا يضحّون فيها بالغالي والنفيس في سبيل أن يتعلّم الأولاد وأن يتثثقفوا ليبقوا محافظين على تاريخهم.
إن الشعب الذي لا تاريخ له، لا مستقبل له!
وكل محاولات الامبراطوريات البيزنطية والإسلامية والصليبية والمملوكية والعثمانية كانت لإلغاء تاريخنا ومحو ذاكرتنا. لكننا صمدنا كنيسة وشعباً في وجه الإضطهادات.
وإذا كنا اليوم نعلن برأس مرفوع وحرية وكرامة هذا الإيمان، ذلك إنها علامة أننا قادرون أن ننقله إلى أجيالنا الطالعة، أينما كانوا، هنا في لبنان أم في الشرق أم منتشرين في العالم كله.
لا تخافوا إذا انتشر أبناؤنا وبناتنا في العالم. وطالما أنهم يحملون تراثهم وإرث شعبهم ورسالة كنيستهم فلا خوف عليهم وعلينا. لا تخافوا على مستقبلنا. نحن أبناء التاريخ ونحن صانعو المستقبل. وما أقوله اليوم أعرف أن آذانكم تستوعبه كما استوعبت آذان الرسل والتلاميذ تعليم المسيح وزرع كلمة الله.
صلاتي اليوم وقداسي أقدمهما على نيتكم جميعاً. على نية هذه الرعية الحبيبة على قلبي؛ على نية كل عائلة من عائلاتها كي تبقى خميرة صالحة تربي على القيم الإنسانية والمسيحية. على نية أبناء وبنات هذه الرعية الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم؛ وعلى نية موتاها الذين سبقونا إلى الملكوت وهم يشفعون بنا لكي نبقى ثابتين في إيماننا، ومتمسّكين بالقيم التي ميّزت عائلاتنا وكنيستنا، ومرتبطين بأرضنا المقدسة التي هي وقف لله ولا يحق لنا أن نتصرّف بها كما نشاء. وكما نُقلت إلينا، علينا أن ننقلها خالصة إلى أجيالنا الطالعة.
صلاتي أقدمها إلى الله كي يعطينا القدرة للمحافظة على تاريخنا فنستعيد بناءه، وللمحافظة على وطننا لبنان فنستعيد معاً بناءه، مسيحيون ومسلمون، وطن رسالة، رسالة محبة وسلام وانفتاح واحترام للإنسان ولتعددية الشعوب والأديان والطوائف والحضارات والثقافات. آمين.