عظة المطران خيرالله في قداس ليلة عيد انتقال السيدة العذراء اللقلوق 14-8-2013

عظة المطران منير خيرالله

في ليلة عيد انتقال السيدة العذراء

الأربعاء 14/8/2013، كنيسة سيدة النجاة- اللقلوق

 

« تعظّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي» (لوقا 1/46)

أحبائي جميعاً،

يا أبناء وبنات تنورين وشاتين واللقلوق والعاقورا وكل المنطقة وبلاد البترون وجبيل.

        فرحي كبير أن أحتفل معكم اليوم، وفي هذا المساء بالذات، للمرة الأولى، بعيد انتقال السيدة العذراء مريم والدة الإله إلى السماء بالنفس والجسد. وهذا العيد هو أكبر أعيادنا لأن مريم لها مكانة مميزة جداً في قلوبنا وفي احتفالاتنا.

وفي لقائنا هذا المساء في كنيسة سيدة النجاة على قمة هذا الجبل أمثولة نأخذها لحياتنا وللسنوات الآتية. ونحن مدعوون إلى وقفة ضمير لكي نستعيد إيماننا وثقتنا بالله ولكي نستعيد ذاكرتنا التاريخية لنتطلّع من خلالها إلى مستقبل واعد نبنيه نحن وأولادنا وأجيالنا الطالعة.

نقف في هذا المكان مع مريم لنشكر الرب على نعمه الكثيرة التي أعطيت لمريم ممتلئة نعمة والتي اختارها الله لتكون أماً لابنه يسوع المسيح الذي ولد إنساناً بيننا ورضي أن يحمل إنسانيتنا وأن يموت فيها على الصليب لكي بموته وقيامته يفتدي جميع البشر.

نحن نشكر الرب اليوم مع مريم ونقول: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي. نشكره لأنه أعطانا مريم نعمة عظيمة وأمثولة لنا جميعاً نحن المسيحيين. فمريم التي اختارها الله في تواضعها وبساطتها من بين نساء العالم لتكون أماً لابنه عرفت كيف تتجاوب مع دعوة الله وتقول: « ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك». وابتدأت معها مغامرة الخلاص، مغامرة الحب، حبّ الله للبشر الذي أراد أن يموت ابنه يسوع المسيح ليفتدينا جميعاً. قالت مريم نعم دون أن تفهم سرّ هذه المغامرة وعمق سرّ هذا الحب. قالت نعم ومشت مع ابنها يسوع منذ الولادة حتى الصليب حتى الموت حتى القيامة؛ وبعد القيامة كانت حاضرة في حلول الروح القدس يوم العنصرة مع الرسل في انطلاقة الكنيسة.

مريم تعطينا أمثولة في التواضع والمحبة والتضحية، في الخدمة الصامتة وفي التسليم الكامل لإرادة الله. هكذا عاش المسيحيون بعد مريم.

ونحن نشكر الله اليوم على نعمته لأننا ولدنا في أرض مقدسة ونحمل إرث آباء وأجداد قديسين عرفوا أن يسيروا على خطى مار مارون الذي وضع روحانية نسكية عاشها من بعده تلاميذُه الذين أتوا إلى جرود جبيل والبترون والجبّة. عاشوا هذه الروحانية حاملين تعاليم المسيح ومعلنينها للعالم كله. عرفوا كيف يعيشون إيمانهم بالله وثقتهم الكاملة به وتسليمهم الكلّي له بالرغم من كل صعوبات الدهر، ومن الإضطهادات وتحديات الزمن، لأنهم حافظوا على حرية وكرامة أبناء الله؛ وعرفوا كيف يعيشون في محبة كاملة لله وفي خدمة وعطاء متجرّدين، وكيف يلتصقون بأرضهم التي اعتبروها وقفاً لله. فحافظوا عليها. وكانت عنصراً من عناصر هويتهم المارونية ثم اللبنانية. حملوا على خطى مريم روحانية النسك التي تركها لهم مار مارون ومار يوحنا مارون البطريرك الأول ومؤسس كنيستنا في بطريركية أنطاكية منفتحة على العالم كله.

فنحن اليوم، على قمة هذا الجبل، نقف مع المسيح وكأننا معلّقون بين الأرض والسماء، كالمسيح المعلّق على الصليب، لكي نرتفع معه في علاقة عامودية مباشرة مع الله، وفي علاقة أفقية مع بعضنا البعض ومع إخوتنا البشر؛ في علاقة محبة وخدمة وتضحية كما فعلت مريم.

لذا فنحن اليوم، في ليلة عيد انتقال العذراء مريم، نجد أنفسنا واقفين أمام السيد المسيح ونرتفع معه عن عالمنا وعن همومنا اليومية وصعوباتنا وتحديات زمننا ووطننا ومنطقتنا كلها. نحن على قمة هذا الجبل نبتعد عنها كلها لنمدّ يدنا إلى السماء ونقترب من الله. وكأننا في علاقة مباشرة معه، نشكره كما شكرته مريم على كل نعمه وخيراته المعطاة لنا.

نحن اليوم مدعوون، في هذا المكان بالذات، إلى وقفة ضمير لكي نستعيد ما نُقل إلينا من إرث الآباء والأجداد، وهم قديسون عاشوا على هذه الأرض الصخرية القاحلة وحوّلوها إلى جنّات نحصد نحن اليوم مواسمها. لأنهم قبلوا أن يضحّوا ويتعبوا ويعطوا كل شيء في سبيلنا نحن الأبناء. في وقفة ضمير علينا أن نقدّر ما أعطاه آباؤنا وأجدادنا وأن ننفتح على الله وعلى العالم بعطاء كامل. وأن نقبل نحن أن نضحي. هذا يعني أن نخرج من أنانيتنا ومصالحنا الشخصية وأن ننبسط إلى أجيالنا الطالعة لكي نعطيهم ما أعطاه لنا الآباء والأجداد، ونقبل أن لا نحصد نحن ما نزرع. نحن نزرع وهم يحصدون. نحن نزرع في الصعوبات والتحديات والأزمات الإقتصادية والإجتماعية والأخلاقية؛ نزرع فيها إيماننا الجديد وإيمان آبائنا وأجدادنا لكي يحصدوا هم مستقبلاً أفضل ممّا نعيش نحن اليوم.

هل نقبل التضحيات ؟ أم أننا نريد كل شيء لنا ؟ وهذا ما نقوله كل يوم: نريد الحلّ الان؛ نريد المستقبل الآن؛ نريد كل شيء من هذه الدنيا الآن ولنا. لا. لم يكن هذا منطق الآباء والأجداد القديسين. هل نقبل التضحيات لكي نترك لهم مستقبلاً نبنيه نحن بأيدينا، بتضامننا ومحبتنا وانفتاحنا على بعضنا البعض؛ نبنيه نحن بالقيم التي تميّزنا بها في كنيستنا وشعبنا ؟ ثم نترك لهم أن يحصدوا.

هل تقبلون بذلك ؟ مريم العذراء قبلت أن ترافق ابنها يسوع في التضحيات وفي الألم وعلى أقدام الصليب، لأنها كانت متأكدة أنه بعد الألم والصليب والموت هناك قيامة، وهناك مجد القيامة في الملكوت. هذا كان إيمان آبائنا وأجدادنا. وهذا يجب أن يكون رجاءنا نحن في تطلّعنا نحو الأفضل.

أحبائي جميعاً. أنتم أبناء هذه الأرض المقدسة، وأبناء هذا الجبل، ومن خلالكم أتوجه إلى جميع إخوتنا في لبنان، مسلمين ومسيحيين. وأقول: تعالوا نعود إلى قيمنا. تعالوا نعود إلى تضامننا ووحدتنا. تعالوا نعود إلى صلابة صمودنا في هذه الأرض المقدسة. تعالوا نعيد معاً بناء وطننا لبنان الذي قالوا عنه أنه الوطن الرسالة، رسالة المحبة والانفتاح، رسالة السلام، رسالة الحرية والكرامة، رسالة العيش الواحد المشترك، رسالة احترام الإنسان في تعددية طوائفه ودياناته وثقافاته وحضاراته. نحن مسؤولون عن إعادة بناء لبنان. ونحن مسؤولون عن إعادة بناء كنيستنا لكي تتابع طريقها وتحمل رسالتها هنا في لبنان وفي الشرق وفي العالم كله، رسالة انفتاح ومحبة واحترام.

تعالوا نطلب من الله بشفاعة أمنا العذراء مريم التي ترتفع معنا من جديد إلى السماء ونرتفع معها لكي نقدم حياتنا وعائلاتنا وأطفالنا وشبابنا وصبايانا وكبارنا، ونقدم كنيستنا ووطننا لبنان لكي يبقيا منارةً في الشرق وفي الغرب ترضي الله وتقول مع العذراء: « تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي». آمين.