عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد انتقال العذراء مريم
في كنيسة سيدة الإنتقال- تنورين الفوقا
الخميس 15/8/2013
« تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي» (لوقا 1/46)
حضرة الأب اغناطيوس والخوري بطرس، خادمي هذه الرعية الحبيبة،
أخواتي الراهبات،
أحبائي جميعاً.
نعيّد معكم اليوم عيد انتقال أمنا العذراء مريم إلى السماء بالنفس والجسد. وهو من أهم الأعياد في كنيستنا. تكريم العذراء مريم لا يأتي من عندنا نحن، بل يأتي من الرب يسوع المسيح ومن الله الآب الذي اختار مريم من بين نساء العالم لتكون أماً لابنه يسوع. اختارها وملأها من النعمة وأعطاها أن تكون أماً للإله الابن الذي سيصير إنساناً من خلالها وبالروح القدس.
مريم الفتاة المتواضعة، المصلّية والمسلّمة ذاتها إلى الله بثقة، قبلت هذه الدعوة، وقبلت أن تدخل في مغامرة الله، مغامرة الحب الذي من خلالها يصبح الإله إنساناً وقالت نعم، « ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك»، دون أن تفهم عمق هذا السر، لكنها قبلت بتواضع ومحبة وتسليم كامل. ورافقت ابنها يسوع منذ الحبل به وولادته وطفولته. رافقته إنساناً في رسالته التبشيرية والخلاصية حتى الصليب، حتى الموت على الصليب، لكي تكون شاهدة لقيامته وترافق الكنيسة من بعده في حلول الروح القدس إلى أن نقلها الرب إلى السماء بالنفس والجسد.
جواب مريم كان نعم، وردّة فعلها كانت الشكر لله: « تعظّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي لأنه نظر إلى تواضع أمته. فها منذ الآن تطوبني جميع الأجيال». هذا هو مزمور الشكر الذي تقدمت به مريم إلى الله على ما أعطاها من نِعم.
وفي عيد انتقالها نحن مدعوون اليوم إلى أن نعود في وقفة فحص ضمير وفعل توبة إلى ذواتنا وإلى الله، وبخاصة نحن أبناء وبنات تنورين. لأن آباءنا وأجدادنا اختاروا سيدة الانتقال شفيعة لهذه الرعية. فعلينا نحن اليوم أن نتقدم من الله، أن نرفع نفوسنا وقلوبنا إليه لكي نتشبّه بمريم ونقول معها مزمور شكرٍ لله على ما أعطانا من نعم وخيرات مجاناً من قبله. وفي فحص ضمير وفعل توبة، نتقدم من الله لنطلب منه المغفرة على ضعفنا وخطايانا. من منا لا يحتاج إلى توبة ؟ جميعنا، أنا وأنتم، نحتاج إلى توبة اليوم وكل يوم. وعلينا أن نتقدم بفعل شكر عظيم إلى الله. وإذا أردنا أن نتسائل ما الذي أعطاناه الله، فنقول إنه أعطانا أولاً أن نكرّم أمه مريم. وتكريم مريم هو تقليد قديم في كنيستنا وفي شعبنا.
وأعطانا ثانياً أن نعيش سرّ ابنه يسوع المسيح، سرّ الخلاص.
وأعطانا ثالثاً أن نتشبّه بمريم في التواضع والخدمة المجانية الصامتة، وفي العطاء والتضحية. لأن مريم عرفت أن الله قلب مقاييس البشر. وهي تقول أنه « شتت المتكبّرين بأفكار قلوبهم، أنزل المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين». هكذا فهمت مريم منطق الله في حياة البشر.
وإذا أردنا أن نتشبّه بمريم، علينا أن نعيش بتواضع، وبخدمة صامتة. هي التي أعطاها الله أن تكون أماً لابنه، تواضعت ولم تظهر يوماً أمام الناس. عاشت بصمت وتخفٍّ وراء ابنها يسوع.
ونحن نتعلّم منها أن نترك كل مظاهر الدنيا وأن نعيش بتواضع وبساطة. هكذا عاش آباؤنا وأجدادنا وتقدسّوا على هذه الأرض.
وعلينا أخيراً أن نفهم أن الله قلب كل المقاييس، فنتبنّى منطق يسوع المسيح ونعيش متشبهين به وبأمه مريم في تضامن ووحدة ومحبة، محبة مجانية لا تطلب شيئاً في مقابل عطائها وتضحيتها. وعلينا أخيراً أن نشكر الله على نعمة أننا ولدنا وأننا نعيش على هذه الأرض المقدسة. إنها نعمة قدّرها آباؤنا وأجدادنا وشكروا الله عليها. هل نعرف نحن اليوم أن نشكر الله على هذه النعمة ؟
فنتمسّك بأرضنا ونرتبط بها ارتباطاً وثيقاً وأن لا نتخلّى عنها أبداً.
في يوم عيد انتقال العذراء مريم، أقدم قداسي معكم ومن أجلكم، على نية هذه الرعية، وعلى نية أبنائها وبناتها الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم، وعلى نية كل عائلة من عائلاتها، كي يبارككم الله بشفاعة أمه مريم. فتبقى عائلاتنا خميرة صالحة تربّي على القيم المسيحية والإنسانية وتنقل هذه القيم إلى أولادنا وأجيالنا الطالعة.
إنها مسؤولية ملقاة على عاتقنا جميعاً، أنا وأنتم. فلنتحمّل هذه المسؤولية ولنقبل التضحية مهما غلا ثمنها في سبيل أن نبني مستقبلاً لأولادنا. آباؤنا ضحّوا بالكثير وزرعوا لكي نحصد نحن. علينا أن نقبل التضحيات لنزرع نحن ويحصد أولادنا.
فلندخل في منطق المسيح، لا نطلب كل شيء لنا، بل نطلبه لأولادنا. وهم يحملون بدورهم رسالة كنيستنا المارونية في تنورين وفي البترون وفي العالم، ويعيشون بحرية وكرامة ورأس مرفوع بحسب ما نُقل إليهم من قيم من الآباء والأجداد.
ولتكن مريم دوماً شفيعةً لنا وحاميةً لأولادنا ولعائلاتنا ومرافقةً لمسيرة شعبنا. ولتساعدنا مريم على إعادة بناء وطننا لبنان في دوره ورسالته، وطنَ رسالة للعالم كله في المحبة والتضامن والسلام، في الإحترام، وفي كرامة وحرية كل إنسان، لنكون جميعنا رسلَ المسيح بشفاعة سيدة الإنتقال. آمين.