عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الراعوية لرعية اجدبرا
كنيسة مار سابا- الأحد 25/8/2013
« من يخدمني فليتبعني وحيث أكون أنا يكون هناك خادمي» (يوحنا 12/26).
أبونا شربل (خشان)، خادم هذه الرعية الحبيبة بمحبة كبيرة،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات اجدبرا والرعايا المجاورة.
فرحتي كبيرة أن أكون هنا اليوم لأعيّد معكم عيد شفيعكم مار سابا ولأجدّد معكم التزامنا باتّباع السيد المسيح. هذا هو برنامج حياتنا كمسيحيين رسمه لنا يسوع المسيح بحياته وموته وقيامته.
في إنجيل العيد، سمعنا يسوع، قبل أن يسلّم ذاته للموت، يصلّي إلى الله الآب على مسمع من الرسل والتلاميذ والناس ويقول: « يا أبتِ مجّد اسمك. لقد أتت الساعة التي يتمجد فيها ابن الإنسان». عن أي ساعة يتكلم يسوع ؟ عن ساعة الموت؛ الساعة التي فيها سيبذل ذاته موتاً على الصليب في سبيل فداء البشر، جميع البشر. وفي هذه الساعة يتمجّد يسوع المسيح ابن الإنسان وابن الله. هل يُعقل بنظركم وفي منطق البشر ان ساعة الموت هي ساعة المجد ؟ وأي مجد ؟
طبعاً، في المنطق البشري، لا نفهم ما يقوله يسوع. إنه سرّ الله، سرّ المحبة التي تقبل وترتضي أن تبذل ذاتها. هذه هي محبة الله الآب لنا جميعاً، أنه رضي أن يصير ابنه يسوع المسيح إنساناً ويحمل إنسانيتنا ويتبنّى ضعفنا ونقصنا ويحمل خطايانا حتى الصليب، حتى الموت على الصليب، ثم بقيامته يعطينا الحياة، الحياة الأبدية. هذا هو سرّ الحب، سر الله الذي مات ابنه يسوع فداءً عنا جميعاً.
إنها حقيقةً ساعةُ المجد في المنطق المسيحي. وساعة المجد هذه تنتظر كل واحد منا، لأننا جميعنا عابرون بالموت. لكن هل نؤمن حقاً أنه بعد الموت ينتظرنا مجد القيامة ؟ هذا هو إيماننا بيسوع المسيح، وعلينا أن نعيش بموجبه ونلتزم به في حياة كل يوم.
نعيّد اليوم عيد شفيعكم مار سابا، لأن أجدادكم وآباءكم في هذه البلدة الحبيبة اختاروا مار سابا شفيعاً لهم. لماذا ؟
مار سابا الراهب الناسك، الذي ترك كل شيء في هذه الدنيا، وتجرّد، وراح يختلي في الدير ثم في المحبسة ليعيش حياة نسكية، تماماً كما عاش قبله مار مارون الذي وضع مقوّمات الروحانية النسكية وتبعه تلاميذ كثيرون وشعب كبير.
عاش مار سابا ناسكاً متعبداً لله، في الصلاة المتواصلة والابتهال إلى الله؛ في التقشف والسهر المستمرّ، وفي العمل في الأرض، لكي يستحق بعد هذه الحياة أن يكون مع المسيح في مجد القيامة. « من يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا يكون هناك خادمي». هكذا ارتضى مار سابا أن يكون خادم المسيح على هذه الأرض وأن يكون بقربه في مجد الملكوت.
وهكذا أيضاً عاش آباؤكم وأجدادكم واتخذوا مار سابا شفيعاً، كما مار مارون أباً، لكي يتشبهوا بهما في عيش حياة نسكية متجرّدة. واختاروا قمم جبالنا أو قعر ودياننا ليعيشوا مقومات الروحانية النسكية.
والمطلوب منا اليوم هو أن نستعيد هذه الروحانية التي عاشها آباؤنا وأجدادنا بصدق وإخلاص ما وضحّوا في سبيلها واقتبلوا التجرّد عن هذه الدنيا وما فيها؛ لأنهم عرفوا أن ملذات هذه الدنيا ومالها وممتلكاتها هي زائلة وفانية. لم يبقَ لهم سوى أعمالهم وقربهم من الله.
هل يُطلب منا أن نكون نساكاً ورهباناً ؟ لا ! إنها دعوة خاصة يعيشها من يدعوهم الله إلى الحياة الرهبانية أو النسكية أو الخدمة الكهنوتية. لكن المطلوب منا جميعاً أن نعيش مقوّمات روحانية النسك التي تركها لنا مار مارون وتلاميذه ومار يوحنا مارون وبطاركتنا ومطارنتنا وكهنتنا ورهباننا ونساكنا وآباؤنا وأمهاتنا.
لم يكونوا جميعهم نساكاً، بل ارتضوا أن يعيشوا على قمم جبالنا الوعرة القاحلة الصخرية؛ لم يكن لهم سوى الله أباً ساهراً وراعياً. اقتربوا من الله وتركوا الدنيا وعاشوا في الصلاة، في البيت وفي العائلة وفي الكنيسة؛ ارتضوا التجرّد والتقشف عن ممتلكات الدنيا وملذاتها؛ وعملوا في هذه الأرض الوعرة والقاحلة ليحوّلوها إلى جنّات يعتاشون منها بحرية وكرامة ورأس مرفوع.
هكذا حافظوا على إيمانهم وعلى القيم التي تربّوا عليها وميّزت كنيستنا وشعبنا وعائلاتنا. وهكذا عملوا في الأرض وارتضوا أن يزرعوا هم لكي نحصد نحن. ارتضوا كل التحضيات في سبيل أن يعيش أولادهم أيضاً بحرية وكرامة.
السؤال الكبير المطروح علينا، وفي عيد مار سابا، هو: هل نرتضي نحن أن نعيش في التجرّد وفي الصلاة والإبتهال إلى الله، وفي تقشف وتضحيات، وأن نعمل في أرضنا ونتمسّك بها ونحافظ عليها لأنها أرض مقدسة، كي يحصد أولادنا ما نكون قد زرعنا نحن ؟ أم إننا نريد كل شيء لنا ؟ هذا هو منطق اليوم.
مرّت علينا الحروب طيلة أجيال وأجيال. مرّت على أرضنا سلطنات وممالك وأمبراطوريات؛ احتلّت أرضنا ودمّرت وقتلت؛ وقبلت كنيستنا وقبل شعبنا أن يحملوا الصليب مع المسيح بإيمان ورجاء. زالت الأمبراطوريات والسلطنات، أما نحن فبقينا ثابتين في أرضنا وراسخين في إيماننا. لماذا ؟ لأن ما نُقل إلينا من الآباء والأجداد كان إرثاً مقدساً. هل نحن مستعدون للمحافظة عليه اليوم ؟ أم إننا نريد كل الحلول لمشاكلنا الآن ولا نقبل التضحيات ؟
منطق المسيح، ومنطقة مار مارون ومار سابا، ومنطق شعبنا طيلة مئات السنوات، هو أن نرتضي الجهود والتضحيات لكي يبقى شعبنا مرفوع الرأس، وأولادنا شهوداً للمسيح في الأرض التي قدّسها المسيح وقدّسها آباء وأجداد لنا.
أرضنا هي وقف لله؛ الله باركها واختارها وقفاً له. لا يحقّ لنا أن نتصرّف بها كما نشاء، حتى ولو كنا نملك صكوكاً فيها. صدّقوني، نحن لا نملكها؛ لأننا عندما نغادر هذه الدنيا لن نحمل صكوكنا معنا، بل نحمل أعمالنا.
إنها مسؤولية جسيمة نحملها اليوم باسم مار سابا ومار مارون وجميع قديسينا، لكي نتضامن ونتوحّد ونخدم بعضنا بعضاً بالمحبة، ونتعامل بالصدق والإخلاص. إنها قيم بدأنا ربما نفقدها اليوم، لكنها هي الأساس في إعادة بناء وطننا لبنان، هذا الوطن الرسالة، وإحياء دعوته التاريخية في المحبة والمصالحة والسلام، في العدالة والحرية والكرامة، وفي رفع شأن الإنسان، كل إنسان.
صلاتي وقداسي اليوم أقدمهما على نية هذه الرعية الحبيبة، وعلى نية أهلها وعائلاتها، الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم وهم كثر في أميركا أو أوروبا أو استراليا؛ وعلى نية موتاها، طالباً من الله بشفاعتهم أن يقوينا على الثبات في إيماننا ورجائنا وعلى قبول التضحيات في سبيل أن ينعم أولادنا بحياة حرّة وكريمة ويكونوا شهوداً للمسيح بالفرح والمحبة والسلام. آمين.