عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار عبدا- جربتا
السبت 31/8/2013
« لأن مصارعتنا ليست مع لحم ودم، بل مع الرئاسات والسلاطين وولاة هذا العالم، عالم الظلام» (أفسس 6/12).
أبونا انطون (نهرا)، خادم هذه الرعية بمحبة كبيرة،
أحبائي جميعاً، أبناء وبنات جربتا، أقربائي وأصدقائي.
بفرح كبير أعيّد معكم عيد شفيع الرعية مار عبدا، هذا العيد الذي تعوّدت أن أعيّده معكم منذ طفولتي.
وأعود معكم إلى أصالة الإيمان الذي أخذناه من آبائنا وأجدادنا الذين عاشوا على هذه الأرض البترونية المقدسة. واليوم أدعوكم إلى عيش أصالة إيماننا المسيحي والتزامنا اليومي لنكتشف من جديد دعوتنا والرسالة التي يحمّلنا إياها يسوع المسيح.
أتوقف في تأملي على كلمات من رسالة مار بولس. حياتنا على هذه الأرض هي صراع مستمرّ ودائم. لكن صراعنا ليس مع لحم ودم، بل مع الرئاسات والسلاطين وولاة هذا العالم، عالم الظلام، ظلام الخطيئة. حياتنا صراع مع عالم الشرّير، مع إبليس. ودورنا، إذا أردنا أن نتبع يسوع، هو في أن ننتصر على الشرّ وأن نتخلّى عن الرئاسات والسلاطين وممتلكات الدنيا.
والجواب يأتي من بطرس أولاً؛ هو الذي قال ليسوع: « لقد تركنا كل شيء وتبعناك، فماذا يكون لنا؟». فأجابه يسوع قائلاً: « كل من ترك من آجل اسمي بيوتاً أو إخوةً أو أخوات أو أباً أو أماً أو أولاداً أو حقولاً يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية» (متى 19/28-30).
هل نريد أن نفهم بأي منطق يتكلم يسوع ؟ إنه منطق المحبة، المحبة المطلقة التي جعلت الله الإبن يسوع المسيح يتخلّى عن ألوهيته ليصير إنساناً، لأنه يحبّ البشر ويريد خلاصهم. فحمل إنسانيتنا الضعيفة وعاش فيها على هذه الأرض التي قدّسها، ثم ارتضى أن يموت فيها على الصليب ليفتدينا ويقول لنا أنه « ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه». وكل ذلك لنصبح من جديد أبناء الله، ونرث الحياة الأبدية.
وقد أصبحنا نحن شعب الله الجديد. فعلينا أن نستحق كل يوم هذه النعمة، بالتخلّي عن أمور هذه الدنيا. فإذا كان هو نفسه تخلّى عن ألوهيته ولم يكن في حاجة إلى ذلك، فكم بالحري نحن أن نتخلّى لنربح معه كل شيء في الحياة الأبدية.
لكن التخلّي عن أمور هذه الدنيا يكلّفنا ويتحّدانا. فنتساءل: كيف نترك ونتخلّى ؟ وإذا تعمّقنا في التأمل، نرى أننا لن نأخذ معنا من هذه الدنيا سوى أعمالنا. أعمالنا هي التي ستديننا أمام الله؛ والباقي هو زائل وفانٍ.
إنما هذا هو ضعفنا البشري، ونرى ذاتنا نتهافت وراء أمور هذه الدنيا وأموالها وممتلكاتها وسلطناتها وكراسيها. كل هذا هو مجد باطل. وجميع الذين سبقونا لم يأخذوا معهم شيئاً منها.
طريقة عيشنا اليوم تطوّرت كثيراً، ونرى فيها رفاهية وسهولة أكبر في الاتصال والتواصل، ولكنها تؤثر علينا سلباً لأنها ربما تدخلنا في إغراءات المادة وتبعدنا عن الربّ وعن القيم التي هي في أساس التزامنا المسيحي، وتبعدنا عن ارتباطنا بأرضنا المقدسة.
فنتساءل: كيف نربّي أولادنا اليوم إذا لم نتعب ونركض ونجاهد ونجمع ما يسمح لنا بتأمين ما يحتاجون إليه ؟ آباؤنا وأجدادنا ألم يتعبوا ويضحّوا ويقتنعوا بعيش الفقر في سبيل تربيتنا لنصل إلى ما نحن عليه ؟
هل نحن قادرون على قبول التحضيات اليوم ؟ وأي تضحيات ؟ وكيف نضحي في سبيل تربية أولادنا ؟ وهل نحن قادرون على قبول دعوة يسوع لنا في التخلّي ؟
آباؤنا وأجدادنا كانوا قديسين، ليس فقط لأنهم جيران القديسين، بل لأن عائلاتنا كانت تربي على القداسة وأعطت قديسين وقديسات. تقدّسوا لأنهم عاشوا في بساطة حياة كل يوم وحافظوا على إيمانهم وثقتهم بالرب يسوع المسيح. فعاشوا بحرية وكرامة ورأس مرفوع.
هل نقبل بأن نتشبّه بهم ؟
صحيح أن متطلبات هذا الزمن تضغظ علينا؛ لكن أين الأولويات في حياتنا ؟ هل الأولوية هي يسوع المسيح وإيماننا به وبكنيستنا والتزامنا فيها ؟ أم إن الأولوية هي لأمور الدنيا ؟ ولن نشبع منها مهما جمعنا وكدّسنا.
أعتقد أن لا أحد منا يريد ذلك، بل نريد جميعنا أن نلبّي دعوة الله لنا، وأن نبقى أوفياء ومخلصين لتراث كنيستنا وشعبنا.
تعالوا نعود إلى ذواتنا بفعل توبة صادق، وجميعنا نحتاج إلى توبة وكل يوم، ونسجد أمام الله قائلين: يا رب سامح ضعفنا ونقصنا، أنت الذي حملت خطايانا حتى الصليب والموت، وأنت الذي تحبّنا كما نحن. أعطنا القوة كي نبقى صامدين وثابتين في إيماننا وحاملين رسالتنا وأوفياء للإرث العريق الذي نُقل إلينا وعلينا أن ننقله إلى أجيالنا الطالعة.
إغفر لنا يا رب لأننا تائبون إليك ونريد أن نفتح قلوبنا لك ولبعضنا البعض، لأنه لا حياة لنا بدونك وبعيداً عنك. أنت الذي قلبت كل المقاييس حيث جعلت الأولين آخرين والآخرين أولين. أحسبنا كالآخرين على هذه الأرض فنصبح أولين معك ونربح الحياة الأبدية. ونحن أيضاً قادرون أن نصبح قديسين. آمين.