عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الراعوية لرعية مار ماما
في مناسبة ليلة عيد شفيعها مار ماما
الأحد أول أيلول 2013
« أنا جئت نوراً إلى العالم لكي لا يبقى في الظلام كل من يؤمن بي» (يوحنا 12/45).
حضرة الأب الياس (العنداري) المحترم، رئيس دير ميفوق وخادم هذه الرعية الحبيبة منذ اليوم.
أحبائي جميعاً أبناء وبنات مار ماما.
فرحتي كبيرة اليوم بأن أكون هنا وأعيّد معكم للمرة الأولى مطراناً عيد شفيعكم مار ماما الشاب الشهيد.
وأنا معكم اليوم وفاءً لرئيسي ومعلّمي في المدرسة الإكليريكية في غزير المونسنيور حارث خليفه، ومعه الأستاذ نهاد بو جبرايل. والوفاء هو قيمة كبيرة من قيمنا المسيحية بدأنا ربما اليوم نفقدها.
عيد مار ماما يدعونا للعودة إلى ذاتنا وإلى أصالة إيماننا الذي نُقل إلينا من آبائنا وأجدادنا ونحمل مسؤولية الحفاظ عليه مع أولادنا وأجيالنا الطالعة في تربيتنا لهم.
يقول لنا السيد المسيح في إنجيل عيد مار ماما: « من يؤمن بي فما بي يؤمن، بل بمن أرسلني وأنا ما تكلّمت من تلقاء نفسي، بل الآب الذي أرسلني هو أوصاني بما أقول وبما أتكلّم» (يوحنا 12/44و49). إذا كان يسوع ابن الله يخفي نفسه لكي يُظهر الآب الذي أرسله، ويتكلّم بما أوصاه الآب، ويوصل الرسالة التي حمّله إياها الآب، فهذا يعني أنه شفاف في تعامله وكلامه وتعليمه ويريد أن يظهر الله الآب من خلاله. وإذا كان يسوع ابن الله تنازل من ألوهيته وحمل إنسانيتنا وأراد أن يظهر محبة الله الآب المطلقة لنا فهذا يعني أنه يريد خلاصنا ويحبنا. فكم بالحري نحن ؟ علينا أن نكون شفافين لكي يؤمن الناس الذين نعيش معهم بالله من خلالنا.
هذه هي الشهادة المطلوبة منا.
« أنا جئت نوراً للعالم لكي لا يبقى في الظلام من يؤمن بي»، يقول يسوع. ثم أضاف: « أنتم نور العالم». هذه الرسالة التي حملها يسوع حتى الموت على الصليب ليفتدي جميع البشر، حمّلها لكنيسته وحمّلها لنا نحن المعمّدين باسم الآب والابن والروح.
مار ماما اختاره آباؤكم وأجدادكم شفيعاً لهم لأنهم أرادوا أن يتشبّهوا به في حياتهم. مار ماما، الذي استشهد بعمر 16 سنة، وقف في وجه الامبراطور البيزنطي ورفض أن يتنكّر لإيمانه بيسوع المسيح وارتضى الموت ليكون شهيداً ورسولاً ليسوع المسيح على الأرض. أحب المسيح لدرجة أنه ضحّى بذاته في سبيل الإيمان به، لأنه كان يؤمن أنه ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه.
هكذا فعل المسيح، وهكذا فعل مار ماما، وهكذا فعل الكثيرون من آباء وأجداد لنا في كنيستنا، وبقوا أوفياء لربهم وثابتين بإيمانهم في وجه كل السلطنات والأمبراطوريات والممالك. ولم يخضعوا يوماُ ولم يستسلموا ولم يرضخوا لأي ضغط لأنهم كانوا متأكدين من أن الرسالة التي يحملونها ستوصلهم إلى الخلاص.
هكذا قبل الكثيرون من الذين سبقوكم وارتضوا أن يعيشوا على مثال مار ماما وآبائنا في الإيمان، من مثل مار مارون وتلاميذه ومار يوحنا مارون والذين أتوا بعده من بطاركة ومطارنة وكهنة ورهبان ونساك وآباء وأمهات. جميعهم عاشوا بموجب الروحانية ذاتها التي جسّدها مار مارون، أي روحانية النسك في بُعدَيْها العمودي والأفقي. عمودياً تميّزوا بعلاقتهم مع الله في الصلاة والابتهال والتضرع إلى الله، في الصوم والتقشف والتجرّد عن العالم. وأفقياً تميّزوا بعلاقتهم مع بعضهم البعض ومع الناس، علاقة المحبة والمصالحة والسلام والمغفرة والإنفتاح والإحترام.
وهذان العنصران يتمثلان في صليب المسيح الذي كان وسيلة خلاصنا.
السؤال المطروح علينا اليوم هو: إلى أين نستطيع الوصول في التزامنا بعيش إيماننا ؟ كم نحن مستعدون أن نصحّي ؟ أم أن أمور هذا العالم تكبّلنا وتقف حاجزاً في وجه علاقتنا مع الله ومع بعضنا البعض ؟
آباؤنا وأجدادنا ارتضوا كل التضحيات وعاشوا على قمم الجبال التي نحن عليها بفقر ولكن بقناعة وحرية وكرامة ورأس مرفوع. اقتنعوا بأنهم يتمّمون مشيئة الله. والقناعة كنز لا يفنى. اقتنعوا بأن لا يبيعوا كراماتهم وأن لا يتراجعوا عن القيم التي ميّزت كنيسهم وشعبهم. واقتنعوا بأن يبقوا مرتبطين بأرضهم التي تعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم، لأنها أرض مقدسة ووقف لله. فحافظوا عليها. هذه هي ثوابت كنيستنا وشعبنا. هل نحن قادرون أن نحافظ عليها وننقلها لأولادنا خالصة صافية؟
ما نطلبه اليوم يتحدّانا في الصميم، لأن هموم هذا العالم هي أكبر منا، لكنها لا يجب أن تبعدنا عن ثوابتنا.
في التطلّع نحو المستقبل، نحن نعود إلى الماضي لنغرف منه أمثولات وعِبَراً لنربّي أولادنا ونبني لهم مستقبلاً.
لا تخافوا ! نحن أقوي من كل التحديات. وإذا كانت كنيستنا ثبتت في وجه تحديات الزمن على أنواعها، نحن أيضاً قادرون على الثبات. لا تخافوا ! المهمّ فقط أن نرتضي التضحيات لنربّي أولادنا ونقول لهم إن رسالتكم في لبنان، ومن لبنان إلى العالم، هي رسالة مقدسة.
اليوم هو الأول من أيلول، ليلة عيد مار ماما، ولكنه أيضاً ذكرى إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920 التي سعى إليها البطريرك العظيم الياس الحويك، واعتبر أنها رسالة اللبنانيين والموارنة بنوع خاص. وجاء البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1997 يقول لنا إن لبنان هو الوطن الرسالة، رسالة بالمحبة والانفتاح، بالسلام والمصالحة والعيش الواحد المشترك بين المسلمين والمسيحيين، باحترام التعددية. وجاءنا أخيراً البابا بنديكتوس السادس عشر في أيلول الماضي يقول لنا: لبنان هو وطن نموذج لكل بلدان العالم ورسالتكم هي أن تحافظوا عليه.
أقدّم قداسي وصلاتي اليوم على نية هذه الرعية الحبيبة على قلبي وأهلها الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم، وعلى نية موتاها الذين سبقونا إلى السماء ويشفعون بنا كي نبقى ثابتين في إيماننا ونكون رسل المسيح حتى بذل الذات على مثال مار ماما. آمين.