عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الراعوية لرعية حدتون
والاحتفال بيوبيل 150 سنة على بناء كنيسة مار الياس
الأحد أول أيلول 2013
« أللّهم إغفر لي أنا الخاطئ» (لوقا 18/13).
أبونا أنطوان (مارون)، خادم هذه الرعية بمحبة ونشكرك عليها.
أحبائي أبناء وبنات حدتون العزيزة على قلبي.
بفخر وبفرح كبيرين أنا معكم اليوم لنحتفل بيوبيل مئة وخمسين سنة على تشييد هذه الكنيسة، كنيسة مار الياس.
وعندما تحتفل الكنيسة بيوبيل، تحتفل بمسيرة تاريخها وحاضرها وتطلّعها مستقبلياً وتجدّدها. هذه هي الكنيسة التي تكلمنا عليها في ندوتنا قبل القداس؛ هي كنيسة البشر، شعب الله، جماعة المؤمنين المعمّدين باسم الآب والابن والروح؛ وهي أيضاً البناء الذي يجتمع فيه المؤمنون ليعبدوا الله بخشوع وتضرّع وعلاقة مباشرة.
أولاً، كنيستكم تتجدّد بالبناء. وعندما نحتفل بيوبيل مئة وخمسين سنة لكنيسة مار الياس، يعني أننا نتطلّع ليس فقط إلى الحاضر، بل إلى الماضي، ومن الماضي نأخذ أمثولات وعِبَراً للمستقبل ونبنيه معاً نحن كنيسة البشر.
الكنيسة تتجدّد في عودتها إلى أصولها وينابيعها وجذورها وتاريخها. والكنيسة تتجدّد في انبساطها وتطلّعها إلى المستقبل البعيد.
الكنيسة بيت الصلاة تسمح للمؤمنين بأن يتخشّعوا متطلّعين إلى جميع من سبقهم في تاريخ كنيسة البشر منذ السيد المسيح، التي أسسها على صخرة إيمان بطرس والرسل وإيمان المسيحيين الأولين، وإيمان بطاركتنا وأساقفتنا وكهنتنا ورهباننا وراهباتنا ونساكنا وآبائنا وأمهاتنا. جميعهم ساروا قبلنا ودخلوا الكنيسة وصلّوا فيها وتضرعوا إلى الله وتقبّلوا مشيئته بقناعة وثقة كاملة، وبنوا معاً كنيسة البشر ثم كنيسة الحجر التي كانت تسمح لهم كل مرة بالعبور من عالم الظلمة، ظلمة الخطيئة، إلى عالم الله، عالم المحبة المطلقة، عالم الحياة الأبدية حيث حجز لنا يسوع المسيح مكاناً وينتظرنا لنحتفل معاً بوليمة عرس الحمل.
وكنيسة الحجر، كنيستكم، كما قال لنا الدكتور سيمون في الندوة، بُنيت على أنقاض كنيسة بيزنطية من القرن السادس. والكنيسة البيزنطية بُنيت على أنقاض معبد روماني. أي أن العبادة في هذا المكان كانت تجمع المؤمنين قبل المسيحية وفيها. كانت تجمعهم ليعبدوا الله الذي لم يكونوا يعرفونه قبل المسيحية؛ وكان هذا المكان مرجعاً لهم ومركزاً لتجمعهم ولعبادتهم ولوحدتهم وتضامنهم. هذا تاريخ الكنيسة. وتجدّدت الكنيسة سنة 1863 بعودتها إلى التاريخ الذي يجب أن يكون حاضراً دوماً في أذهاننا لكي نبني من خلاله تربية أولادنا وأجيالنا الطالعة.
ثانياً، كنيسة البشر في حدتون تجدّدت مستندة إلى تاريخها العريق بإكليريكييها وعلمانييها الذين كانوا يكوّنون معاً رعية المسيح في هذه البلدة. حدتون لها تاريخ عريق بأشخاصها وعائلاتها، بكهنتها وعلمائها الذين سبقوكم وتركوا لكم إرثاً غالياً.
تعالوا نعود أولاً إلى هذا التاريخ في وقفة تجدّدٍ لكي نغرف منه ما يساعدنا على وضع أسس لبناء المستقبل.
تعالوا نعود ثانياً إلى كنيستنا المارونية ومسيرتها التاريخية وعناصر روحانيتها التي وضعها القديس مارون في أواخر القرن الرابع وبداية القرن الخامس، هذه الروحانية النسكية التي تركها وصية لتلاميذه. وهؤلاء أتوا بدورهم مرسَلين إلى جرود جبيل والبترون والجبّة يزرعون هذه الروحانية المبنية على عنصرين أسايين: العنصر العمودي في العلاقة مع الله - أي في حياة نسكية متجردة في الصلاة والابتهال والسهر والصوم والتقشف - والعنصر الأفقي في العلاقة مع الناس – أي في علاقة محبة وانفتاح واحترام وتضامن ووحدة وتضحية وخدمة مجانية. هذه هي روحانيتنا النسكية التي شبّهها الخوري يواكيم مبارك بروحانية الصليب في بُعدَيْه العمودي والأفقي. وهي التي حملها تلاميذ مارون وأسّس عليها مار يوحنا مارون الكنيسة البطريركية المارونية وحافظ عليها هو ومن جاء بعده من بطاركة ومطارنة وكهنة ورهبان ونساك وآباء وأمهات. واختاروا أن يعيشوا على قمم هذه الجبال – أو في قعر الوديان – والروحانية هي نفسها كما يقول الخوري ميشال الحايك، بتجرّدهم وفقرهم وصلاتهم وتضرعاتهم المتواصلة إلى الله وسهرهم ووقوفهم المستمرّ، لأنهم كانوا وسيبقون الشعب الواقف للتواصل مع الله. واختاروا أن يعيشوا انفتاحهم على جميع البشر، شرقاً وغرباً، انطلاقاً من هذا الجبل حاملين رسالة المسيح وروحانيتهم وثقافتهم؛ وكانوا روّاد ثقافة وعلمٍ ووساطة.
وكما دخَلت كنيستنا المارونية في مسيرة تجدّد مع المجمع البطريركي الماروني، كذلك أبرشيتنا في البترون، أبرشية القداسة والقديسين، تنوي أن تسير في التجدّد وتهيّء لانعقاد المجمع الأبرشي الذي سنطلقه قريباً، في أواخر تشرين الأول المقبل؛ وقد عيّنت أميناً عاماً له أحد أبناء هذه الرعية، الدكتور نبيل خليفه. وهدف هذا المجمع الأبرشي أن يطبق توصيات المجمع البطريركي وأن يدعونا إلى الالتزام بعيش إيماننا المسيحي وبالتجدّد على كل المستويات في العودة إلى تاريخنا وجذورنا الروحانية لكي نبني معاً مستقبلنا ومستقبل أولادنا على العناصر ذاتها التي ميّزت كنيستنا وشعبنا طيلة أجيال وجعلت منهما علامةً لحضور الرب يسوع في العالم.
إني أصلّي اليوم على نية هذه الرعية، حجراً وبشراً، وعلى نية أبنائها وبناتها الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم، وعلى نية موتاها الذين سبقونا إلى الملكوت ويشفعون بنا من فوق، لكي نبقى جميعاً قلباً واحداً متضامنين موحَّدين كما كان آباؤنا حول رأس كنيستهم البطريرك الأب والراعي والقائد.
وأصلي معكم من أجل بطريركنا السابع والسبعين، مار بشاره بطرس الراعي، لكي يرعى كنيسته وشعبه ويقودهما إلى ميناء الأمان. ونحن اليوم في الأول من أيلول، ذكرى إعلان دولة لبنان الكبير التي سعى إليها البطريرك العظيم الياس الحويك. آمين.