عظة المطران منير خيرالله
في قداس ليلة عيد القديس نعمة الله الحرديني
الخميس 13/12/2012، في دير مار قبريانوس ويوستينا- كفيفان
« ربّ هبنا عائلات، تنمو فيها الدعوات»
أخي صاحب السيادة المطران بولس آميل سعاده، فرحتي كبيرة أن تكون معنا الليلة وأنا أتابع ما بدأت ببنائه في هذه الأبرشية، أبرشية القداسة والقديسين،
حضرة الأب الرئيس، حضرة الأب المعلّم،
إخوتي الكهنة والرهبان، أخواتي الراهبات،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات أبرشية البترون.
فرحتي كبيرة أن أحتفل معكم اليوم، وللمرة الأولى أسقفاً لأبرشية البترون، بعيد أحد قديسينا، القديس نعمة الله وهو معلَم من معالم القداسة في أرضنا وفي كنيستنا وفي شعبنا وأبرشيتنا.
يدعونا السيد المسيح في إنجيل اليوم، كما دعا رسله الأولين الإثني عشر، إلى أن نكون مشاركين في رسالته الخلاصية. لأنه ارتضى أن يصير إنساناً، وهو الإله، من فيض محبة الله الآب لنا جميعاً بدون تمييز ولا استثناء. ارتضى أن يتجسّد على أرضنا وفي تاريخنا ثم يحملنا بكل ما عندنا من نقص وضعف، ويحمل حتى خطايانا، حتى الصليب والموت لكي يعطينا بقيامته الحياة الجديدة.
وكما دعا يسوع المسيح، بعد الرسل، التلاميذ وكل من سبقونا على طريق القداسة ليكونوا حاملي الرسالة الخلاصية ومبشرين بالملكوت في عيش المحبة التي لا تعرف حدوداً على أرض لبنان، التي هي وقف لله، واختارها وقفاً له لكي تبقى أرض قداسة، هكذا دعا القديس نعمة الله فدخل مدرسة القداسة التي نما فيها آباؤنا القديسون من بطاركة وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وآباء وأمهات مقتفين تعاليم المسيح في الإنجيل وعناصر الروحانية النسكية التي وضعها أبونا القديس مارون.
نحن مدعوون اليوم، في ليلة عيد القديس نعمة الله، أن ندخل معه مدرسة القداسة كما دخل فيها القديس شربل. فالقديس شربل تأثر بنعمة الله الحرديني، مرشده ومعلمه، كما تسامى في نهج حياة النسك بطريقة متفوقة ضاهى فيها كبار النساك والحبساء.
نعمة الله الحرديني في مدرسته يعلّم الجميع « بالقول والعمل»، أي كان يحاول أن يكون قدوة ومثالاً أمام الأخوة والرهبان. وكان يتبع النهج النسكي الذي وضعه مار مارون وتبعه تلاميذه، لا سيما يُوحنا مارون البطريرك الأول ومؤسس كنيستنا، وكان يخضع لقواعد ثلاثة: القانون والحكم السليم والموقف الحازم. فكان الحرديني راهباً ثم معلّماً للإخوة ثم مدبّراً في الرهبانية يحافظ على القانون، ويتوخى دوماً الحكم السليم ويتبنّى الموقف الحازم.
نمت دعوة الحرديني أولاً في عائلته وبلدته حردين. تربّى في عائلة تقوم على القيم والأخلاق المسيحية والإنسانية وفي مجتمع يتوق إلى القداسة ومعروف بالإيمان وبالتمسّك بالروحانية المارونية التي كانت تقوم على العناصر النسكية (الصلاة والصوم والتقشف والإتحاد بالله والعمل في الأرض) وتمثل البعد العمودي، وعلى العناصر الرسولية (الإنفتاح والمحبة والثقافة) التي تمثل البعد الأفقي.
عاش طفولته وشبابه في بلدة حردين حاملة التاريخ والملئية بالكنائس والمزارات، وفيها دير مار سركيس الذي كان كرسياً أسقفياً وبطريركياً. وكان يتنقل بين هذه الكنائس والمزارات للإبتعاد عن العالم والصلاة.
ثم في الحياة الرهبانية بالغ في الإنقطاع عن أهله وبلدته؛ ولم يعد إليها حتى للإحتفال بقداسه الأول. لبس المسح كل حياته الرهبانية وعاش في الصوم والسهر. كان ينهض على قرع الجرس لصلاة الليل ويبقى ساجداً في الكنيسة حتى الاحتفال بقداسه قرب الظهر. وبالغ بحفظ القوانين الرهبانية، وطلب حفظها من الرهبان عندما كان معلّماً للإخوة ومدبّراً في الرهبانية.
هدا النهج النسكي أكسبه فضائل ثلاثة: الصلاة والتواضع والصبر.
وهذا هو النهج نفسه الذي اتبعه القديس شربل، مع الفارق أن شربل عاشه في المحبسة بينما نعمة الله عاشه في قلب الجماعة الرهبانية.
كان نعمة الله يشدّد على «العيشة الديرية المشتركة»، ويردّد في حوار مع أخيه الحبيس الأب أليشاع أن الحياة في الجماعة هي أصعب من الحياة في المحبسة لأنها «استشهاد دائم»، وتخلٍّ عن الذات في سبيل الجماعة. وفي كل حياته كان نعمة الله يعيش اتحاده بالله عبر الصلاة المتواصلة وساعات السجود التي كان يقضيها في الكنيسة ويكلّلها بالقداس ذبيحة الشكر لله.
هكذا تقدس نعمة الله، وهكذا تقدس الكثير من الرهبان قبله وبعده.
إنها دعوة لنا جميعاً كي نعود إلى أصالة الروحانية التي تركها لنا مار مارون وعاشها آباؤنا وأجدادنا من إكليروس وعلمانيين، إلى أصالة العيش عمودياً في اتحادنا مع الله وأفقياً في علاقة المحبة والقربى مع بعضنا البعض.
نحن مدعوون اليوم إلى أن ندخل في مدرسة القداسة في كنيستنا. ووجودنا في هذا المكان يهيئنا لأن نبتعد ولو قليلاً عن كل ملذات العالم وضجيجه وهمومه فنتحّد بالله في مكان يساعدنا على الصلاة والتسامي وعلى سماع تعليم المسيح في الإنجيل في سبيل أن نطبقه في حياتنا. فنكون له شهوداً في عالمنا ومجتمعنا ووطننا لبنان، « الوطن الرسالة» «والوطن النموذج». ونحن نحمل مسؤولية أن يحافظ وطننا على دعوته ودوره ورسالته.
نحن مدعوون إلى أن نعيد إلى عائلاتنا روح القداسة فتربي أولادنا وأجيالنا الطالعة على الصلاة وعلى السهر مع الله وعلى العلاقة في المحبة مع إخوتنا البشر.
نحن مدعوون أخيراً إلى أن نعيش التجدّد، وهو مشروع خدمتي الأسقفية في أبرشية البترون، التجدّد الروحي وتجدد الأشخاص وتجدّد المؤسسات. وقد بدأت بتطبيقه مع إخوتي الكهنة والرهبان وأخواتي الراهبات بحيث تصبح أديارنا مراكز إشعاع روحي يأتي المؤمنون إليها ليتغذوا روحياً ثم يعودوا بالتزام أكبر إلى رعاياهم فيجعلوا منها واحاتٍ روحية تنتعش بالصلاة والعمل الكنسي. آمين.