عظة المطران منير خيرالله
في قداس تبريك كنيسة سيدة عين الذهب- اللقلوق تنورين (بعد ترميمها)
الأحد 12 آب 2012
« أيتها المرأة ما أعظم إيمانك» (متى 15/28)
أخي قدس الآباتي بطرس طربيه أبن هذه الأرض التنورية الحبيبة،
إخوتي الكهنة الأحباء،
أبونا ميلاد وإخوتي في جوقة الصوت العتيق حامل التراث تراث الكنيسة تراث أرضنا المقدسة،
حضرة رئيس بلدية تنورين، الشيخ عزيز طربيه،
أيها الأحباء.
بقلب كبير أنا أحتفل معكم اليوم بعيد العذراء مريم سيدة الذهب وأنا معكم اليوم ارتفع إلى السماء لأقول كما قال بطرس ورفاقه مع تجلي الرب يسوع: «حسن لنا يا رب أن نبقى هنا»، لأن هنا تجلياً لسرّك الثالوثي. إنها نعمة أعطانا الله إياها لنعرف أن نمجده ونشكره عليها. فالأرض التي نحن عليها والكنيسة التي نباركها هي أرض مقدسة؛ هي أرض عرفت كيف تمجد الله؛ وفي الأساس أرض لبنان هي أرض مقدسة لأن المسيح قدسها بتجسده فيها وبعيشه عليها وبمروره كما سمعنا في إنجيل اليوم في صور وصيدا. وإنجيل شفاء ابنة المرأة الكنعانية إنجيل اليوم هو رسالة لنا جميعاً. المرأة الكنعانية هي إمرأة من أمهاتنا على هذه الأرض، ونحن ورثة لها. لم تكن من شعب الله المختار؛ كانت من الشعب الوثني الذي قال المسيح: لم أُرسل إليه أنا، بل أُرسلت فقط إلى الخراف الضالة من بني إسرائيل. وكان جواب المسيح قاسياً جداً إذا أردنا أن لا ندخل في عمق كلام المسيح: لا يحق لجراء الكلاب أن تأكل من طعام البنين. وجواب هذه الكنعانية كان: جراء الكلاب أيضاً وتقصد الذين ليسوا من شعب الله المختار لهم الحق أن يأكلوا على الأقل من الفتات المتساقط عن مائدة البنين. وهذا كان امتحان يسوع لرسله وتلاميذه قبل أن يكون للكنعانية ولشعبه لأن كلمته الأخيرة كانت: « ما أعظم إيمانك أيتها المرأة» وكأنه يقول لشعبه، للشعب الذي أرسل إليه: أين إيمانكم ؟ أنتم تدعون أنفسكم الشعب المختار أبناء الله؛ أين أنتم من هذا الإيمان؟ لا تقدّرون النعمة التي أعطيتم من الله؛ أما هذه الوثنية الغريبة لديها إيمان وثقة أكبر منكم بكثير؛ هل تتعلمون؟ إيمان الكنعانية هو إيماننا نحن. لا نفتخر أننا شعب الله المختار أو أننا شعب الله الجديد في الكنيسة، بل نحن نفتخر أننا حاملو إيمان قوي وثابت، أننا حاملو تراث عريق، وأننا حاملو تاريخ عاشته كنيستنا وشعبنا مئات السنوات. وأذا كنا لا زلنا نحتفل اليوم وعلى هذه الأرض بالذات بإيماننا وبالذبيحة الإلهية وبسرّ خلاصنا بالمسيح يسوع، هذا لأن كان لنا آباءً وأجداداً وأمهات ثبتوا في إيمانهم ولم يفتخروا سوى بأنهم أبناء ثقة بالله وبأنهم متمسكون بهذه الأرض المقدسة أرض الله. هذا هو فخرنا. الكنيسة التي نقدس أمامها اليوم وسنصلي فيها دوماً تشهد كما كل كنائسنا في هذه الأرض وفي تنورين وفي الأرض البترونية وفي كل جبال لبنان ووديانه تشهد على ما يحمل شعبنا وما تحمل كنيستنا من تاريخ نضال وثبات ومحبة وانفتاح على الله وعلى الإنسان. نحن أبناء الكنعانية لم نقل يوماً إننا وحدنا شعب الله, بل نحن صرنا أبناء الله بالمسيح يسوع؛ ونريد أن يكون كل الناس شعب الله بالمسيح يسوع. هذا هو انفتاحنا على الجميع، وهذه هي رسالتنا، رسالة كنيستنا منذ مار مارون مؤسس روحانيتنا النسكية المتجردة التي تريد فقط أن تقترب دوماً من الله بعيشها على قمم هذه الجبال أو في قعر الوديان لكي تبتعد عن كل ما في هذه الدنيا من مغريات وتقترب من حبها لله ومن حبها للإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله والذي خلصه بإبنه الوحيد يسوع المسيح. وقبل كل ذلك كانت رفيقتُنا في هذه المسيرة الطويلة مريم العذراء والدة الإله سيدة لبنان ورفيقة كل بطاركتنا منذ نشأة كنيستنا وحتى اليوم، وستبقى، وشفيعة كنائسنا ورعايانا ومزاراتنا وبيوتنا وعائلاتنا. مريم العذراء هي التي سهرت علينا في أيام المحن وفي أيام القوة، في أيام الحزن وأيام الفرح. مريم التي دعاها آباء لنا سيدة الذهب وهي أغلى من الذهب في قلوبنا، مريم العذراء هي أمنا؛ ونحن اليوم وكل يوم نطلب شفاعتها ونصلي إليها وليس لنا سواها من أم تعرف أن تحضن أبناءها وبناتها. مريم العذراء هي وحدها تدلنا على الطريق إلى السيد المسيح. ومع مريم لنا آباء قديسون سبقونا لمرافقة مريم؛ سبقونا إلى الملكوت وهم شفعاء لنا. وكنائسنا ورعايانا تشهد على ذلك لأن عائلاتنا في الأساس كانت قديسة؛ والعائلات القديسة تعطي قديسين. مار شربل ومار نعمة الله والقديسة رفقا والأخ اسطفان وغيرهم الكثيرون لو لم يتربوا في عائلات مسيحية ملتزمة لم يصيروا قديسين. ولنا أيضاً في المستقبل قديسون كثيرون لأن عائلاتنا تعرف أن تحافظ على إرثها في القيم المسيحية والإنسانية والأخلاقية، على إرثها العريق، وتربي عليه.
قداسنا اليوم هو تكليل لما تم من عمل لترميم هذه الكنيسة، ولكن أيضاً هو تكليل لمسار شعب وكنيسة يريدان أن يحافظا على رأسهم المرفوع وعلى الكرامة وعلى الحرية وعلى الإيمان الثابت والرجاء الوطيد. ثوابتنا نحن الموارنة هي أولاً إيماننا بالسيد المسيح المائت على الصليب من أجلنا والقائم ليعطينا الحياة. وهي ثانياً روحانيتنا النسكية المتجردة وفي الوقت نفسه المنفتحة على العالم. وهي ثالثاً أرضنا المقدسة. فواجبنا اليوم وكل يوم أن نبقى متمسكين بها، ولا يحق لنا أن نفرط بها، ليس فقط لأنها إرث كبير من الآباء والأجداد بل لأنها وقف لله. وهي رابعاً أننا مريميون، لأننا إنطاكيون. نحن دوماً نطلب شفاعة مريم الحاضرة في بيوتنا وفي حياتنا وفي عائلاتنا. مريم هي مرجعنا إلى السيد المسيح. وهي خامساً أننا رواد علم وثقافة وانفتاح؛ ولولا ذلك لما كنا هنا اليوم، ولما كنا منفتحين على العالم بأبنائنا المنتشرين حاملي هذه الرسالة أينما كانوا في الاميركتين أواستراليا أو الشرق أو كل الغرب.
ثوابتنا هي هذه، ومن واجبنا اليوم أن نحافظ عليها وأن تكون كل عائلة من عائلاتنا هي الكنيسة المصغرة التي تربي على هذه الثوابت وتربي أجيال المستقبل على حب الله والتمسك بهذه الثوابت. لا تخافوا إذاً نحن أقوياء بالسيد المسيح. نحن أقوياء بأرضنا. نحن أقوياء بكنيستنا. نحن أقوياء بإيماننا وبوحدتنا. لا تخافوا مهما قالوا علينا. نحن لسنا منقسمين، ولسنا مشرذمين. نحن اليوم أقوى من كل يوم في تاريخنا. ما مرّ علينا في التاريخ: الامبراطوريات كلها، من الفارسية إلى الرومانية إلى العربية إلى الصليبية إلى المماليك إلى العثمانيين؛ مرّت علينا أيام صعبة وقاسية ومظلمة، وبقينا بفضل وحدة شعبنا حول رأس الكنيسة البطريرك، منذ الأول يوحنا مارون حتى السابع والسبعين. نحن أقوياء إذا بقينا ثابتين بثوابتنا الخمسة وإذا بقيت عائلاتنا تعطي قديسين وتنفتح على المستقبل وعلى العالم. نحن أقوياء.
قداسي معكم اليوم لأقول لكم من على هذه القمة المشرفة على الشرق وعلى الغرب وعلى كل منطقة البترون أرض القداسة والقديسين لا تخافوا. أقدم القداس على نيتكم جميعاً لكي يباركنا الرب ونحن هنا على قمة هذا الجبل المقدس نرتفع إليك يا رب لنؤدي لك المجد والشكران لأنك أنت معطي النعم مجاناً لنا ولشعبنا ولكنيستنا؛ لأنك تباركنا اليوم كما باركت المرأة الكنعانية وكما أرسلت إلينا مريم أماً دائمة شفيعة. أقدم لك هذه الرعية؛ أقدم لك أبناءها وبناتها الحاضرين والغائبين والمنتشرين في العالم؛ أقدم لك عائلاتنا بكل ما تحمل من هموم وآمال ورجاء للمستقبل؛ طالبين إليك أن تقوينا في مسيرتنا لكي نشهد لابنك يسوع المسيح شهادة محبة وانفتاح وسلام؛ فيبقى وطننا لبنان أرضك المقدسة، يبقى وطنَ الرسالة، نموذجاً للعالم كله في الحرية والكرامة والتعددية واحترام الانسان. آمين.