عظة المطران منير خيرالله
في قداس عيد مار اسطفان
كاتدرائية مار اسطفان- البترون، 27/12/2012
« فرأوا وجهه كأنه وجه ملاك» (أعمال 6/15).
إخوتي الكهنة،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات البترون وأصدقاءنا الموجودين معنا اليوم، لا سيما وفد رعية دبل وعلى رأسه الخوري يوسف النداف.
نعيّد برجاء كبير عيد مار اسطفان الشهيد الأول في الكنيسة، وهو الذي ضحى بذاته في سبيل أن يثبت في إيمانه بالمسيح يسوع، وكان أول من رسم طريق الشهادة بعد المسيح في الكنيسة.
يخبرنا لوقا في كتاب أعمال الرسل عن اسطفانوس وما كان يحمل من رسالة ودور مهمين في الكنيسة الأولى.
« وكان اسطفانوس، وقد امتلأ من النعمة والقوة، يأتي بأعاجيب وآيات مبينة في الشعب... فقام أناس يجادلونه على إيمانه، فلم يستطيعوا أن يقاوموا ما في كلامه من الحكمة والروح». لم يستطيعوا أن يأتوا بكلام يدحض تبشيره عن السيد المسيح وعن سر الإله الذي صار إنساناً وارتضى أن يحمل الإنسانية بكل ما فيها؛ أن يحملها حتى الصليب، حتى الموت على الصليب، ثم بالقيامة يعيطها الحياة الجديدة.
«فقبضوا عليه وساقوه إلى المجلس. ودسّوا أناساً يلفّقون كلاماً عليه وأحضروا شهود زور... فحدّق إليه جميع من كان في المجلس من أعضاء، فرأوا وجهه كأنه وجه ملاك».
نتساءل لماذا ؟ لأن اسطفانوس كان ممتلئاً من الروح القدس وكان يشهد لما عاشه ويعيشه مع السيد المسيح، ولأنه كان من الأولين الذين شهدوا على رسالة المسيح التبشيرية منذ معموديته على يد يوحنا المعمدان، وكان هو الذي شهد مع الرسل على موت المسيح وقيامته. «فراح يعظ» ويبشر ويخبر أهل شعب الله عن تاريخهم، بدءاً من ابراهيم إلى موسى إلى الملك داود، ويُلفتهم إلى أن الشعب كان يخون الله ويقتل أنبياءه. واستنتج قائلاً في عظته: « يا غلاظ الرقاب، ويا قساة القلوب، ويا صامّي الآذان، إنكم تقاومون الروح القدس دائماً وأبداً. وكما كان آباؤكم، فكذلك أنتم». هكذا قال قبله المسيح (متى 23/34)؛ « وقد أصبحتم أنتم الآن مثلهم خونة وقتلة. فقد أخذتم الشريعة التي أعلنها الملائكة ولم تحفظوها». « فلما سمعوا ذلك استشاطت قلوبهم غضباً... ودفعوه إلى خارج المدينة وأخذوا يرجمونه... وفي ما كانوا يرجمونه، كان يدعو ويقول: « ربّي يسوع تقبّل روحي! ثم جثا وصاح بأعلى صوته: يا رب لا تحسب عليهم هذه الخطيئة!».
تماماً كما كان فعل قبله الرب يسوع على الصليب قائلاً: « يا رب إغفر لهم لأنهم لا يدورن ما يفعلون».
ويتابع لوقا في كتاب أعمال الرسل:« وكان شاول، (الذي صار بولس)، موافقاً على قتله... وفي ذلك اليوم وقع اضطهاد شديد على الكنيسة التي في أورشليم، فتشتتوا جميعاً، ما عدا الرسل، في ناحيتي اليهودية والسامرة».
كان هذا في بداية مسيرة الكنيسة. أما اليوم فماذا ؟
إذا كان اسطفانوس الشهيد الأول، بإيمانه بالمسيح، أعلن أمام الجميع وهو يموت ويلفظ الروح: يا رب لا تحسب عليهم هذه الخطيئة. فهل نستطيع نحن اليوم أن نعيش المغفرة ؟ هل نستطيع أن نصلي من أجل من يسيء إلينا ؟ هذا هو التحدي الذي ينتظرنا جميعاً، ليس فقط أبناء وبنات البترون، بل أيضاً نحن المسيحيين في لبنان وفي الشرق الأوسط، حيث بلداننا تعيش مرحلة صعبة جداً، ليست الأولى في تاريخها، لكنها مرحلة حرجة تضعنا أمام مسؤولياتنا ورسالتنا وشهادتنا للمسيح. هل نقبل بحمل الشهادة اليوم حتى لو كلّفتنا الإستشهاد ؟ أـم أننا نهرب إلى البعيد البعيد. وإلى أين ؟
يتكلّم العالم اليوم، في كل وسائله الإعلامية، عن مصير المسيحيين في الشرق الأوسط متسائلاً هل انتهوا ؟ كلا. نقول للجميع: إن المسيحيين اليوم ثابتون في إيمانهم وفي رجائهم بالمسيح إله القيامة والمجد، كما كان ثابتاً اسطفانوس، وكما كان الرسل والمسيحيون الأولون ثابتين في إيمانهم. لا يهمّنا عددنا. يهمّنا نوعية حضورنا وشهادتنا للمسيح وحمل رسالتنا في المحبة والمصالحة والمغفرة.
هل نحن مضطهدون ؟ ربما. ونقول ربما لأن موجة التعصب تكبر يوماً بعد يوم، وليس لنا فيها شيء. إنما إذا كانت موجة التعصب، من أي جهة أتى، ردّة فعل على سياسات معينة تأتينا من قرارات الأباطرة في عواصم القرار في العالم، فنحن لسنا ملزمين بتنفيذ القرارات. نحن ملزمون فقط بعيش شهادتنا للمسيح. نحن ملزمون فقط بحمل رسالتنا ورسالة كنيستنا التي كانت وستبقى ثابتة فيها منذ بداية المسيحية واستشهاد اسطفانوس حتى يومنا وإلى ما شاء الله.
اسطفانوس اليوم يهزّ ضمائرنا جميعاً ويعيدنا إلى تاريخنا، كما أعاد شعب الله إلى تاريخه من ابراهيم إلى موسى إلى داود وإلى السيد المسيح، وإلى آبائنا الشهداء والقديسين الذين ارتضوا أن يبقوا ثابتين في إيمانهم حتى ولو دفعوا أغلى الأثمان. يعيدنا اسطفانوس اليوم، نحن أبناء وبنات البترون، إلى تاريخ آبائنا وأجدادنا في هذه المدينة؛ إنهم اتخذوا منذ بداية المسيحية مار اسطفانوس شفيعاً لهم، وكانوا يعرفون جيداً أنه الشهيد الأول الذي ضحى بحياته. فإذا ارتضوا أن يتخذوه شفيعاً لهم، فلأنهم كانوا واعين لرسالة الشهادة للمسيح.
هذا هو تاريخ البترون. فهل نستطيع أن نبقى أوفياء صادقين لهذا التاريخ ونقبل الشهادة والإستشهاد، إذا اراد الله ذلك، في سبيل أن تكون المسيحية في أرضنا رسالة محبة ومصالحة ومغفرة ؟
فجميع من يعيشون معنا منذ مئات السنوات ينتظرون منا أن نعيش تلك القيم المسيحية. وإذا رأوا أننا نعيش شهادتنا للمسيح وأننا نحب بعضنا بعضاً ونقبل كل التضحيات، سيقولون: أنظروا كم يحبّ بعضهم بعضاً، إنهم حقاً تلاميذ المسيح !
هذا ما يجب أن نستحقه كل يوم.
صلاتي معكم اليوم من أجل هذه الرعية؛ من أجل كل من يحمل فيها اسم اسطفان؛ من أجل كل عائلاتنا؛ من أحل شعبنا ووطننا لبنان، الوطن الرسالة والوطن النموذج في الحرية والكرامة والديمقراطية والإنفتاح واحترام الإنسان.
صلاتي من أجل كنيستنا اليوم في لبنان وفي الشرق الأوسط، كي تبقى كنيسة المسيح حاملة شعلة السلام والمصالحة والمحبة. فاستشهاد اسطفانوس يوقظ ضمائرنا كي نكون على مثاله وعلى مثال السيد المسيح رسل المحبة وصانعي السلام في مجتمعاتنا بحيث تحظى بما يريد أبناؤها، أبناء بلداننا في الشرق الأوسط، أي حريتهم وحرية تقرير مصيرهم لوحدهم. فيكونوا هم أيضاً معنا حاملي رسالة الإله الواحد، أب الجميع، رسالة المحبة والإنفتاح والإحترام. فنشهد للعالم كله أننا نستطيع أن نعيش معاً، مسيحيين ومسلمين ويهوداً، في حياة متجددة أرادها السيد المسيح، بشهادة واستشهاد اسطفانوس، أن نكون خميرة في أرض المسيح بالذات. آمين.