عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الرعائية لرعية جران
لمناسبة عيد شفيعها مار ضوميط
الثلاثاء في 7 آب 2012
«أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه والباقي يعطى لكم ويزاد»
أخي أبونا شربل خادم هذه الرعية بمحبة كبيرة
أبونا رزق ابن جران
يا أبناء وبنات جران الأقارب والأهل والأحباء على قلبي
بتأثر عميق أحتفل معكم اليوم بعيد شفيعكم مار ضوميط. وتعود بي الذكرى إلى سنة 1972 في ليلة عيد مار ضوميط عندما كنت سعيت إلى تأسيس الفرسان والطلائع في هذه الرعية، قبل أن أسافر إلى روما لمتابعة دروسي اللاهوتية. وكان احتفالنا الأول في عيد مار ضوميط منذ 40 سنة تماماً وأيضاً مع التأثر العميق قلبي كبير بكم اليوم لأني في بلدتي وبين أهلي وأقاربي وأصدقاء القلب فاحتفالي اليوم هو تكليل لمسيرة طويلة مشيناها معاً وسرنا فيها معاً على خطى المسيح وعلى خطى شفيعنا مار ضوميط وكل قديسينا وشفعائنا الذين يحيطون بنا ونعيش بقربهم.
مار ضوميط، لأبدأ من هنا، اختاره آباؤكم وأجدادكم شفيعاً لهم، ويجدر بنا أن نعود ولو للحظة إلى ما يعلمنا من سيرة حياته وشهادته. مار ضوميط كان فارسياً وصار وزيراً عند ملك الفرس في الامبراطورية الفارسية في القرن الرابع للمسيحية. كلّفه الملك أن يضطهد المسيحيين وكانوا لا يزالون في نشأتهم في هذا الشرق وكانوا مضطهدين من الامبراطورية الفارسية ومن الامبراطورية الرومانية لأنهم دخلوا مع المسيح في ديانة الاله الذي تجسد وصار إنساناً ليخلص البشر. شق عليهم ذلك فاختاروا أن يضطهدوا المسيحيين الناشئين. لكن الوزير أصيب بمرض داء المفاصل فضربه الرب أو بالأحرى رأى علامة من الله، لا نقول الرب يضرب، الرب يحب، رأى أن علامة من الله شفته من مرضه. فقصد أن يصير مثل هؤلاء المسيحيين الذين كان يضطهدهم وصار مسيحياً واقتبل سر العماد وغيّر حياته تماماً. ثم اختار أن يبشر ويشهد للمسيح في بلاد نصيبين (العراق اليوم). لكن الملك عاد وطلبه ليرتد إلى ديانته الوثنية فرفض وبقي وفياً وأميناً لايمانه الجديد بالمسيح. إلى أن حكم عليه بالاعدام وكان قد استحبس في محبسة ليبتعد تماماً عن العالم وكل ما في الدنيا ومغرياتها فيعيش بعيداً عنهم ليصلي من أجلهم ومن أجل ارتدادهم. فكان الحكم بالاعدام عليه بأن سدّت مغارته فمات فيها سنة 363.
مار ضوميط يدعونا اليوم، ولأن آباءنا وأجدادنا اختاروه شفيعاً لهم، يدعونا اليوم إلى أن نعود إلى جذور إيماننا المسيحي وشهادتنا ومسيرتنا التاريخية. يطلب منا أن نعود إلى جذور إيماننا المسيحي وشهادتنا ومسيرتنا التاريخية. يطلب منا أن نعود إلى جذور روحانيتنا النسكية التي أسسها مار مارون ثم عاشها تلاميذ مارون على هذه الجبال التي نحن نعيش عليها اليوم. فكانوا رسلاً في حياتهم النسكية ثم مع يوحنا مارون نشأت البطريركية والكنيسة المارونية في كفرحي، في هذه الأرض بالذات، وتركوا لنا تاريخاً وإرثاً عريقاً. كان الآباء والأجداد أوفياء لهذه الدعوة ولهذا التاريخ. قبلوا أن يعيشوا في روحانيتهم النسكية أي أن يعيشوا على الجبال أو في الوديان، أن يعيشوا بعيدين عن العالم، أن يتركوا كل شيء ويسلموا ذواتهم لله فقط هو الآب الذي طلب منا المسيح أن نسلم إليه ذاتنا. وفي الإنجيل سمعنا اليوم: «لا تهتموا لما تأكلون وما تلبسون وما تشربون. أنظروا طيور السماء أنظروا زنابق الحقل أبوكم السماوي يهتم فيها دون أن تتعب وبدون منّة». فانتم أفضل منها بكثير.
هكذا فهم الآباء والأجداد دعوة المسيح إليهم ودعوتهم التاريخية إلى القداسة فثبتوا في إيمانهم وثبتوا في حرية عيش معتقدهم في هذه الأرض التي قدستهم وتقدسوا فيها؛ فتعبوا عليها وسقوها من عرق جبينهم وكانوا يعيشون بكرامة وبحرية ومرفوعي الرأس، ولم يخضعوا سوى للخالق، لله وحده ولابنه المخلص يسوع المسيح. فكانوا شهوداً لايمانهم ليس فقط في هذه الجبال وليس فقط في لبنان بل أيضاً في هذا الشرق ثم تابعوا رسالتهم منتشرين في العالم كله.
مار ضوميط ومار مارون وكل قديسينا يدعوننا اليوم ويسألوننا أين أنتم من هذه الدعوة التاريخية التي حملها آباء وأجداد لكم ؟ أين أنتم من هذه الدعوة التي أعطت قديسين كثراً وأنتم تحظون بنعمة كبيرة لأنكم جيران القديسين لأنكم أبناء جران لأنكم أبناء منطقة البترون أرض القداسة والقديسين ؟ فالمسؤولية التي تحمّلونها اليوم هي كبيرة وكبيرة جداً. والرسالة التي يحملكم إياها المسيح وكل آبائكم مسؤولية عظيمة جداً هل تعرفون أن تقدروا هذه النعمة التي أعطاها لنا الله كي نكون أبناء القداسة وأبناء قديسين خرجوا من عائلات تقدّست بعيشها في الكرامة وبعيشها بالرغم من الفقر والصعوبات وكل التضحيات. تقدست في ثباتها في إيمانها وبتمسكها بأرضها وهذه هي ثوابتنا.
إيماننا وأرضنا وعائلاتنا. ومن هنا أخذنا ذاكرتنا التاريخية كما نقلت إلينا من الآباء والأجداد حيث تربينا عليها. ومن هنا أخذنا رسالتنا التاريخية لنتطلع بها إلى المستقبل البعيد. لا تخافوا ! مع المسيح نحن أقوياء؛ وبكل قديسينا نحن أقوياء, طالما أن لنا عائلات تربي على القيم المسيحية والإنسانية التي هي من تراث كنيستنا وشعبنا، شعب مارون. نحن لا نخاف طالما أن لنا عائلات تقبل التضحيات في سبيل أن يكون أبناؤنا وأجيالنا الطالعة أمناء ومخلصين لدعوتهم التاريخية. نحن لا نخاف طالما نحن باقون شعباً متمسكاً بإيمانه وبأرضه. فأرضنا هي أرض مقدسة. أرضنا هي وقف لله، اختارها الله وقفاً له. فلا يحق لنا أن نبذر بها ولا أن نبيعها ولا أن نفرط بها. ليست ملكاً لنا؛ إنها لله. فهي أرض القداسة وأرض الله. ونحن في عائلاتنا مسؤولون أن نبقى كلنا أوفياء وأمناء لهذه الدعوة التاريخية.
أنا فخور بكم، وقلبي كبير بأن أحتفل اليوم في بلدة جران التي تربيت فيها كما في مراح الزيات وكما في جربتا وكما في جاج. أنا فخور بتاريخ جران وبما أعطت؛ ليس فقط لأنها جارة كفيفان وجربتا وحردين وتنورين وعبرين. أنا فخور بجران لأنها أعطت رجالاً كباراً. إسمحوا لي أن أذكر فقط خيرالله خيرالله الذي رفع عالياً اسم بلدته جران واسم عائلته المعادية. رفعها عالياً في العالم كله فكان معلماً كبيراً في الدين والثقافة والسياسة وعلم الاجتماع لأنه ناضل في أيام البطريرك العظيم الياس الحويك الذي أرسله إلى بلجيكا ليكون إكليريكياً وكاهناً. ثم ترك وانتقل إلى فرنسا وفيها لعب دوره الكبير وناضل من أجل استقلال لبنان ضمن محيطه العربي كي يبقى لبنان، كما كانت كنيسته المارونية، لاعباً الدور التاريخي والرائد في محيطه؛ لأن الدور والرسالة اللتين يحملهما ناضل في سبيلهما خيرالله خيرالله كما البطريرك الياس الحويك كما الكثيرون من اللبنانيين في فرنسا بنوع خاص. وما قاله خيرالله في السنوات 1900 و1920 و1930 ينطبق علينا اليوم تماماً. فنحن بين امبراطوريتين. مطلوب منا أن يبقى لبنان وطن الرسالة كما دعاه البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني الذي فهم ما هو دورنا. وطن الرسالة في محيطه أولاً، لأنه وطن الانفتاح وطن المحبة وطن الحرية وطن الكرامة وطن الديمقراطية واحترام التعددية. هذا هو لبنان وهكذا يجب أن يبقى لبنان رسالة. علينا أن نحافظ عليه اليوم بالرغم من كل التحديات. لا تخافوا ! أنتم ونحن أقوياء. كنيستنا قوية. لا يهمنا العدد. الله لا يعدّ خرافه، الله يرعى خرافه ويريد أن تبقى الخراف وفيّةً للراعي وموحّدة حول الراعي، وبقلب واحد تناضل من أجل الثبات في إيمانها وفي رسالتها ودورها في أرضها المقدسة. وأخوتنا المنتشرون في العالم من جران ومن كل منطقتنا البترونية يشاركوننا هذا النضال كي يبقى لبنان رسالة للعالم كله.
صلاتي اليوم من أجل هذه الرعية الحبيبة على قلبي. من أجل كل الذين سبقونا إلى دار الحياة لدى الآب السماوي وهم كثر وكلنا نذكرهم. من أجلكم أنتم الحاضرين، من أجل الغائبين، من أجل المنتشرين في العالم، أصلي كي تبقى هذه الرعية وعائلاتها منارة للمحبة والتضحية والنخوة والضيافة والكرم؛ هذه هي شيمنا في العائلة المعادية، وللانفتاح واحترام الإنسان كل أنسان الذي خلق على صورة الله كمثاله. آمين.