عظة المطران خيرالله في الزيارة الراعوية لرعية مار تقلا بيت كساب 23-9-2012

عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الراعوية لرعية مار تقلا- بيت كسّاب
الأحد 23 أيلول 2012
 
«إسهروا إذاً لأنكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة» (متى 25/13).
      (إنجيل عيد القديسة تقلا).
 
حضرة الأب دانيال (ديب) خادم هذه الرعية الحبيبة،
أحبائي جميعاً أبناء وبنات بيت كساب وحردين.
 
        بفحر واعتزاز أنا معكم لنحتفل بعيد القديسة تقلا شفيعتكم والشهيدة الأولى في الكنيسة. وأنا أتهيّب الموقف لأني أسمع الله يقول لي كما قال لموسى: «إخلع نعليك من رجليك وتقدّم، لأن الأرض التي تدوسها هي أرض مقدسة».
فأنا اليوم كما أنتم على أرض مقدسة. أرض الله. الأرض التي اختارها الله له وقفاً وحافظ عليها وأعطت قديسين وقديسات.
ونحن اليوم ورثة هؤلاء القديسين والقديسات، علينا أيضاً أن نتهيّب الموقف ونحن في ساحة هذه الكنيسة الأثرية التي تدعونا منها القديسة تقلا إلى أن نكرّس حياتنا وذواتنا لتتميم مشيئة الله. فكما كانت القديسة تقلا من عائلة وثنية شريفة عرفت كيف تتبع كلام الله عندما تعرّفت إليه على يد القديس بولس، وكانت رسولة له وتركت كل شيء في هذه الدنيا من شرف وملذات وسلطة. واستحقت الآلام والعذابات والإستشهاد لأنها بقيت ثابتة في إيمانها بالله وثقتها به.
يا أحبائي أبناء هذه الأرض المقدسة، إني أدعوكم اليوم إلى أن تعودوا معي إلى تراث وإرث كنيستنا وشعبنا وآبائنا وأجدادنا. إنها دعوة بالعمق إلى كل واحد منا. وكانت دعوة لي عندما دعاني الله إلى خدمة الأسقفية في أبرشية البترون؛ وكنت واعياً تماماً للمسؤولية الكبرى التي يسلّمني إياها لخدمة أبرشية أعطت قديسين وقديسات. وهي أبرشية عرفت عائلاتُها أن تبقى ثابتة في إيمانها وفي الدعوة التي دعاها إليها الله ومار مارون بوضعه مقومات الروحانية المارونية التي تميّزت بالنسكية. فاتخذتُ شعاراً لي الخدمة في المحبة: «أنا بينكم خادم المحبة».
هكذا كانت خدمتي الكهنوتية طيلة خمس وثلاثين سنة، وهكذا ستكون خدمتي الأسقفية بينكم. إنها نعمة مميزة من الله، ولكنها أيضاً مسؤولية كبيرة تلقى على كتفيّ.
وإني أدعوكم يا أبناء هذه الأرض المقدسة إلى أن تتحمّلوا معي المسؤولية. لأن الكنيسة ليست الأسقف، وليست الكهنة والرهبان والراهبات. الكنيسة هي جميع المؤمنين المعمّدين باسم الآب والإبن والروح القدس. هي شعب الله. على رأسها الأسقف في الكنيسة المحلية، وهو يمثّل المسيح بينكم، وهو خليفة الرسل؛ وعلى رأس الأساقفة خليفة بطرس بابا روما. لكن الأسقف الذي يرأس الكنيسة هو في خدمة شعب الله ومعه يكوّن الكنيسة. وحيث يكون الأسقف هناك تكون الكنيسة، يقول القديس اغناطيوس الأنطاكي.
لذا فإني أدعوكم إلى أن تتحمّلوا معي مسؤولية تطبيق البرنامج الذي وضعته لخدمتي الأسقفية بينكم وشعاره التجدّد. لأن كنيستنا اليوم كانت دوماً تتجدّد بشعبها، وبمؤمنيها، بأكليروسها، بأساقفتها وبطاركتها. وهي اليوم تتجدّد بتطبيق توجيهات وتوصيات المجمع البطريركي الماروني الذي عملنا له خمساً وعشرين سنة بقيادة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير. والبطريرك الحالي السابع والسبعون مار بشاره بطرس الراعي كان معنا في اللجنة المجمعية ورافق كل أعمالها وصار اليوم بطريركاً ووضع في أولويات برنامج خدمته البطريركية تطبيق المجمع البطريركي الماروني الذي دعا ويدعو كنيستنا وشعبنا إلى التجدّد. وأنا أيضاً مثله اتخذت التجدّد برنامجاً لي في أولويات راعوية ثلاث.
أولاً: وضعتُ التجدّد الروحي في رأس الأولويات. فنحن أبناء أبرشية البترون، أبرشية القداسة والقديسين، نحن مدعوون أولاً إلى أن نتجدّد روحياً في العودة إلى أصالة إيماننا، إلى ينابيعنا الروحانية التي تأصّلت في الأماكن والمزارات التي منها انطلقت كنيستنا، ومنها حردين ووادي تنورين حتى جربتا وكفيفان. نحن مدعوون إلى أن نتجدّد روحياً بسماع كلمة الله في الكتاب المقدس وبالصلاة اليومية في العائلة وفي الكنيسة، وبالتزامنا بالتقرّب من الله بالمحبة له وللقريب. نحن مدعوون أن نتجدد روحياً بالتزامنا المسيحي والإجتماعي والإنساني وبعيش القيم التي تربّينا عليها.
ثانياً: في ثاني أولوياتي الراعوية وضعتُ التجدّد في الأشخاص. فالتجدّد لن يكون ممكناً إلا إذا تجدّدنا نحن أبناء هذه الكنيسة، بدءاً من الأسقف ثم بالكهنة والرهبان والراهبات ثم بكل المؤمنين. لذا بدأت أنا مسيرة التجدّد مع إخوتي الكهنة والرهبان والراهبات في الأبرشية، ودعوتهم إلى أن نتجدّد نحن بأشخاصنا في عيش الدعوة التي دعانا إليها الله لنكون مثالاً وشهادة لكم وأمامكم. وإذا كنا نحن نعيش ما نعلّمه، تكونون أنتم مصداقيين معنا لأننا مصداقيون مع ذواتنا. فالتجدّد في الأشخاص يجعلنا كلنا نلتزم ببناء الكنيسة.
ثالثاً: وفي ثالث أولوياتي الراعوية وضعتُ التجدّد في المؤسسات. وهذه توصية مهمة من توصيات المجمع البطريركي الماروني، أي أن تتجدّد كنيستنا في مؤسساتها بعد أن تكون قد تجدّدت روحياً وتجدّدت في أشخاصها.
بدأ غبطة أبينا البطريرك مار بشاره بطرس الراعي منذ تولّيه الخدمة البطريركية بورشة تجدّد المؤسسة البطريركية إذ نظمها في دوائر لكي تصبح كنيستنا بدءاً من البطريركية في خدمة شعبها وتشهد للمسيح في المحبة، كما كانت كنيستنا طيلة مسيرتها التاريخية من كفرحي إلى يانوح وإيليج وقنوبين وبكركي دوماً في خدمة شعبها.
وبدأت أنا بورشة تجدّد مؤسسات أبرشيتنا ودوائر المطرانية. فأنشأت المجالس واللجان؛ وسأنتقل إلى الرعايا لأجدّدها في كهنتها ولجان الوقف والجمعيات والمنظمات الكنسية. وكي تلبّي أبرشيتنا دعوة المسيح لها، عليها أن تُظهر وجهه من خلال خدمة شعبها في المبحة. وتعرفون جيداً كم يحتاج شعبنا اليوم إلى خدمة في المحبة لأن همومه وشجونه كثيرة. وعلينا ككنيسة أن نكون إلى جانبه.
وهذا يعني أن نتحمّل معاً مسؤولية تطبيق هذا البرنامج. إني أدعوكم إلى أن نبدأ كل واحد منا بالتجدّد في شخصه ثم في عائلته ثم في رعيته لكي نلتقي جميعاً في أبرشيتنا ونتمّم إرادة الله فينا كي نكون قديسين. ونحن نستطيع أن نكون قديسين، لأن العائلات التي تربّينا فيها هي عائلات مقدسة وأعطت قديسين وقديسات؛ وبيت كساب وحردين هما مثال على ذلك. وعائلاتنا نقلت إلينا هذا الإرث العريق في القداسة والمحبة. فهل تقف هذه الذاكرة التاريخية عندنا ؟ أم نتحمل مسؤولية نقلها إلى أولادنا وأجيالنا الطالعة ؟ فنربّيهم كما تربّينا نحن على القيم التي ميّزت كنيستنا وشعبنا، شعب مارون، طيلة مئات السنوات. وهذه القيم هي المحبة وما ينتج عنها من قيم، أي التضامن والإخلاص والصدق في التعامل واحترام الآخر ورأيه واحترام التعددية والتنوّع في العيش مع اخوتنا المواطنين غير الموارنة وغير المسيحيين.
بنى أجدادنا وآباؤنا لبنان وطناً قالوا عنه إنه الوطن الرسالة: الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، ثم ردّده على مسامعنا الأحد الماضي البابا بنديكتوس السادس عشر قائلاً: وطنكم هو وطن الرسالة هو نموذج لدول الشرق ودول الغرب؛ وأحمّلكم مسؤولية أن يبقى كذلك. ونستطيع أن نتحمّل تلك المسؤولية إذا بقينا موحّدين حول البطريرك رأس كنيستنا ومرجعها كما كنا منذ نشأة كنيستنا مع مار يوحنا مارون في كفرحي وحتى البطريرك السابع والسبعين ومن يأتي بعدهم.
الدعوة هي دعوة مقدسة. فلا السياسة، ولا شؤون هذا العالم، ولا السلطنات ولا الكراسي تفرّق بيننا أو تشرذمنا. ووحدتنا حول بطريركنا هي الضمانة الوحيدة لاستمراريتنا في لبنان وفي الشرق وفي العالم.
لا تخافوا ! نحن أقوياء بالمسيح؛ أقوياء بالثبات في تراثنا وإرثنا وفي أرضنا المقدسة. فلنحمل معاً مسؤولية رسالة ودور كنيستنا ووطننا لبنان الوطن الرسالة في الشرق وفي العالم. آمين.