عظة المطران منير خيرالله
في قداس الزيارة الراعوية لرعية القديسة صوفيا- صغار
السبت 22 أيلول 2012
«البذر ينبت وينمو، والزارع لا يدري كيف يكون ذلك» (مرقس 4/27)
(من إنجيل عيد القديسة صوفيا)
أخي الأب سمير بشاره، المرشد العام لرابطة الأخويات في لبنان،
أخي الخوري انطون (نهرا) خادم هذه الرعية الحبيبة ومعك كل ثقتي في بداية خدمتك،
أنسبائي وأحبائي أبناء وبنات صغار الحبيبة إلى قلبي.
من كان يحسب أن الصبّي منير الذي كان يأتي إلى بلدة صغار لزيارة الأهل والأحبّاء،
ومن كان يحسب أن الشاب الطالب الإكليريكي منير الذي كان يأتي إلى صغار لمرافقة وتشجيع الأخوية والطلائع والفرسان،
ومن كان يحسب أن الكاهن الجديد، الخوري منير، الذي كان يأتي إلى صغار بفرح كبير ليشارك العائلات والرعية أفراحها وأحزانها،
هو اليوم يدخل إلى بلدة صغار ويدخل قلوبكم أسقفاً لكم. (تصفيق حادّ).
إنها إرادة الله. تماماً كما الزارع، في المثل الذي يعلّمنا فيه السيد المسيح، الذي يزرع ثم ينام ويقوم ويرى أن الزرع ينبت وينمو وهو لا يدري كيف يكون ذلك. إن الله هو الذي ينبت ويُنمي، والزارع لا يدري.
والصبي منير والشاب والإكليريكي والكاهن لم يكن يدري ما كانت إرادة الله في حياته. لكن الله يوجهّنا، وقد وجهّه بمشيئته، لكي نعمل كلنا ما تقتضيه مشيئته، ونقبل بما يريده الله منا بتسليم كامل. هو الذي رسم طريقي منذ الصغر، وأوصى إلى والديّ أن يدعواني باسم منير (نهرا بالسريانية)، ورسم لي خريطة طريق لحياتي كلها، الإنسانية والكهنوتية واليوم الأسقفية. وعندما دعا والديّ إلى الإستشهاد، وكنت بعدُ طفلاً، كانت أيضاً مشيئته ورسم لي الطريق ولم أكن أدري.
أما اليوم، عندما أقف الآن أمامكم وفي هذه الكنيسة بالذات، كنيسة الشهيدة صوفيا التي سلّمت ذاتها إلى الله وفرحت بالإستشهاد مع بناتها الثلاث، أقف لأقرأ مسيرة حياتي. وصغار هي فيها.
أذكر كل تلك السنوات وكل الخطوات التي خطوتها معكم في الأيام الحلوة وفي الأيام المرّة. كيف أنسى كل ما عشته بينكم في الأعراس التي كانت تمتدّ إلى أيام وأيام، فيجتمع حولكم كل الأهل والأحباء وأبناء الرعايا المجاورة. كيف أنسى الأحزان الكبيرة التي مرّت فيها رعيتكم صغار. كيف أنسى الأشهر المظلمة التي أُقفلت فيها الطرقات على صغار، التي كانت بوّابة البترون من جبيل، وأصبحت سجناً وبقي باب جبيل وحده مفتوحاً من عين كفاع. وهل أنسى عندما كنت آتي إلى رعيتكم، وكنتم قد إنقطعتم حتى عن الكاهن خادمكم، إما سيراً على الأقدام وإما في سيارتي من بوابة جبيل، لكي لا تبقوا أيتاماً وبدون خدمة رعوية، وبدون الإحتفال بالذبيحة الإلهية وبخاصة في الأعياد الكبرى كأحد الشعانين والجمعة العظيمة وأحد القيامة.
أنتم لم تنسوا، وأنا أيضاً لا أنسى. وأنا أقف اليوم بينكم أسقفاً لكم وخادماً لكم في المحبة، أحملكم، وأحمل كل تلك السنوات بما فيها من أفراح وأحزان وآمال ورجاء إلى مذبح الرب لأقدمها قرباناً مميزاً. إنها الذاكرة التاريخية التي يحمّلنا إياها آباؤنا وأجدادنا، وبخاصة الذين منهم استُشهدوا على مثال القديسة صوفيا شفيعتكم، كي نبقى نحن ثابتين في إيماننا، وثابتين في أرضنا المقدسة، وثابتين في القيم التي تربّينا عليها في عائلاتنا وفي حريتنا وكرامتنا ورأسنا المرفوع.
هذه الذاكرة التاريخية هي مسؤولية كبرى تلقى اليوم على أكتافنا. فكما أن الآباء والأجداد قبلوا كي التضحيات ولم ينسوا، علينا نحن أيضاً اليوم أن لا ننسى ولكن أن نغفر ونسامح. إنها قيمة المحبة، الوصية التي تركها لنا السيد المسيح وهو يموت على الصليب غافراً لصالبيه: « أحبّوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم». «وإذا أحببتم من يحبّكم فأيُ أجرٍ لكم. أحبوا أعداءكم وصلّوا لأجل مضطهديكم لتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات».
نحمل ذاكرتنا التاريخية، ذاكرة شعبنا وكنيستنا، بوعيٍ كامل؛ وكلنا نعرف كيف نغفر ونسامح ونحبّ ونجدّد حياتنا كل يوم برجاء كبير وبثقة لا حدّ لها. وعلينا نحن أن ننقل هذه الذاكرة التاريخية إلى أولادنا وأجيالنا الطالعة، كي لا ينسوا هم أيضاً، ولكن ليحملوا مسؤولية رسالة ودور كنيستهم في لبنان وفي هذا المشرق وفي العالم. ما نُقل إلينا علينا أن ننقله نحن أيضاً بوفاء وإخلاص إلى أجيالنا الطالعة. وعلينا أيضاً أن نكون شهوداً للمسيح في عيش المحبة والمغفرة والمصالحة. وكلها قيم تؤدي إلى السلام.
هذه التوصيات هي تماماً التي قالها لنا قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر منذ أيام عندما كان بيننا. وطلب منا نحن اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، أن نكون صانعي سلام في مجتمعنا ووطننا لبنان، «الوطن الرسالة»، كما دعاه سلفه الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني.
هل نقدّر ماذا تعني هذه التوصيات وماذا تحمل هذه الشعارات وما تحمّلنا من مسؤوليات جسام ؟ إعادة بناء لبنان في دعوته التاريخية هي مسؤوليتنا. بنيناه بكل التضحيات، وعلينا أن نحمل دوره ورسالته إلى العالم كله. قال لنا قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر: كان لبنان ويجب أن يبقى نموذجاً لدول الشرق الأوسط ولكل دول العالم؛ نموذجاً في الانفتاح والعيش الواحد المشترك وفي احترام التنوّع والتعددية بين الثقافات والحضارات والطوائف والأديان. لبنان وطن المحبة والسلام هو مسؤوليتنا. وإذا استقلنا نحن من هذه المسؤولية، فمن يحملها ؟ لا أحد !
ومهما كانت التضحيات التي تُطلب منا كبيرة، نحن باقون وثابتون في رسالتنا ودورنا. لا تخافوا ! لا تخافوا ! نحن أقوياء اليوم، وأقوى من كل يوم من أيام تاريخنا. فإذا تطلّعنا إلى تاريخنا، وعلينا أن نعرف تاريخنا ونعرّف أولادنا عليه - هذه هي الذاكرة التاريخة – نرى أن ما يمرّ علينا اليوم لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى ما قاساه آباؤنا وأجدادنا من الحروب والإضطهادات والإهانات والتهجير والفقر والحرمان؛ ومع هذا كله بقوا ثابتين.
نحن أقوياء لأننا موحّدون حول رأس كنيستنا ومرجعها الوحيد البطريرك، كما كنا موحّدين منذ نشأة كنيستنا مع مار يوحنا مارون في كفرحي جارتنا. وسنبقى موحّدين حول بطريركنا السابع والسبعين مار بشاره بطرس الراعي وحول البطاركة الذين سيأتون بعده؛ ولن تفرّقنا السياسة وشؤون هذه الدنيا.
ثقتنا بالمسيح قوية وإيمانا كبير ورجاؤنا بمجد القيامة مع المسيح أكبر. فإذا كنا أعطينا الشهداء والقديسين والقديسات، نحن قادرون أن نقدم ما يطلب منا الله، وما يطلبه منا لبنان وهذا الشرق المعذّب، كل التضحيات في سبيل أن نبقى مرفوعي الرأس ونعيش بحريتنا وكرامتنا.
أقدّم قداسي اليوم من أجلكم جميعاً، أنتم الحاضرين هنا، ومن أجل الغائبين والمنتشرين في العالم ونحن نحملهم في قلوبنا، ومن أجل كل موتانا الذين سبقونا إلى ملكوت الآب السماوي وهم يشفعون بنا ويطلبون لنا أن نبقى موحّدين متضامنين ثابتين في إيماننا وثقتنا بالله، وفي قيم شعبنا وكنيستنا، وفي أرضنا المقدسة، الأرض التي اختارها الله وقفاً له وسيحفظها كذلك إلى الأبد. آمين.